لم تكتف إسرائيل بأن تنكرت لنصوص اتفاقية أوسلو التي كانت حكومتها وقعتها مع "م.ت.ف" في أيلول من العام 1993، والتي كانت تنص على أن الحل مكون من "فصلين أو مرحلتين": الأول_انتقالي يبدأ بإقامة حكم ذاتي فلسطيني في قطاع غزة وأريحا أولاً، ويمتد بعد ذلك، ليشمل التجمعات السكانية من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، بما يغطي نحو 90% من مساحتها، وينكفئ فقط على المستوطنات والقدس والحدود، وهي ملفات يتم التوصل إلى حل بشأنها، تم تعريفه على أنه الحل النهائي، والذي اتفق على أن يأتي نتاج مفاوضات الحل النهائي التي تبدأ منذ إقامة سلطة الحكم الذاتي، وتستمر بسقف زمني أبعده خمس سنوات، بحيث يصل الطرفان للعام 1999، ويكون قد تم التوصل لاتفاق الحل النهائي.
لم تكتف إسرائيل بالتنصل من نصوص الاتفاق، فهي أولاً عرقلت الانسحابات التي كان يجب أن تشمل كل المناطق التي صنفت (ب) ومن ثم معظم المناطق التي صنفت (ج)، ولم تلتزم بروح الاتفاق، أي بمتابعة المفاوضات، بهدف التوصل للحل النهائي، الذي كان واضحاً من خلال بعض محطاته أنه سيعني انسحاب إسرائيل من نحو 95% من الأرض المحتلة منذ العام 1967، كذلك التوصل لحل لملف القدس، يضمن أن تكون عاصمة الدولتين: فلسطين وإسرائيل، مع حرية العبادة لأتباع الديانات الثلاث، كذلك لحل ملف اللاجئين، بما يضمن عودتهم للدولة الفلسطينية أولاً ومن ثم تعويضهم أو تخييرهم بين التعويض والعودة كمقيمين في دولة إسرائيل وليس بالطبع كمواطنين فيها.
إسرائيل تمادت أكثر واستغلت انفجار الأوضاع واندلاع المواجهة بين الجانبين بعد محادثات كامب ديفيد الفاشلة عام 2000، لتنقض على صلاحيات سلطة الحكم الذاتي المحدودة أصلاً، خاصة تلك المتعلقة بسيادتها الكاملة على مناطق (أ)، الخاضعة لسلطتها الأمنية والمدنية الكاملة، وقد تذرعت إسرائيل بوقوع المواجهة لتدخل قواتها العسكرية مناطق سيادة السلطة بحجة المطاردة الساخنة للمطلوبين للأمن الإسرائيلي، بما قوض تماماً من سلطات السلطة المحدودة أصلاً.
ولو أن السلطة عاملت إسرائيل بالمثل، أي لو أنها قامت بمطاردة مستوطنين يطلقون النار أو يقومون بإحراق أو قتل المواطنين الفلسطينيين أو بالعبث ببيوت أو بأشجار المواطنين الفلسطينيين، فماذا سيكون رد فعل إسرائيل؟
باختصار يمكن القول: إن إسرائيل قد توقفت عن العمل بنصوص أوسلو فضلاً عن روحها منذ العام 1996، وبشكل رسمي وواضح وصريح منذ العام 2000، وتكفي هنا الإشارة إلى اغتيال إسحق رابين وتنصيب بنيامين نتنياهو/الليكود المعارض للاتفاقية منذ العام 1996 كرئيس للحكومة، ليخلفه أيهود باراك العمالي لكن المعارض بدوره للاتفاقية والذي جر المفاوضات إلى الطريق المسدود في كامب ديفيد 2000، ثم أريئيل شارون مشعل انتفاضة الأقصى.
منذ العام 2005 توقف فصل المواجهة التي راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف قتيل على الجانبين وأكثر من خمسين ألف جريح، بعد اتفاق الهدنة بين الرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك أريئيل شارون نفسه، في شرم الشيخ، ورغم ذلك فإن إسرائيل لم تعد الروح لأوسلو، وبدلاً من أن تعيد تمركز قواتها إلى ما كانت عليه قبل العام 2000، ذهبت إلى انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، مهيئة الطريق لانفصاله عن الضفة الغربية، وحتى"تتفرغ" هي لاحتواء الضفة وابتلاع أرضها وتهويد القدس.
توقفت المواجهة وعقدت الهدنة مطلع العام 2005، وبدلاً من أن تعيد إسرائيل _على أقل تقدير_ للسلطة صلاحياتها كسلطة حكم ذاتي، أدخلتها في الخلاف الداخلي بإجبارها على إجراء انتخابات كان معروفاً سلفاً بأن "حماس" ستفوز بها، وربما كان مخططاً أيضاً، لها أن تنفصل بغزة، حتى تذهب بعد سنوات لتكون هي الدولة الفلسطينية!
وجدت سلطة الحكم الذاتي نفسها مع مرور الوقت بعد العام 2007 وحتى الآن، أي خلال عشر سنوات مضت بين إدارتين، لا تكبحان جماح طموحها لأن تتحول إلى مشروع الدولة المستقلة على أراضي دولة فلسطين المحتلة منذ العام 1967 في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وحسب، بل وحتى يتم ضمان استحالة أن يحدث هذا التحول، بقضم صلاحياتها، فها هي لجنة "حماس" الإدارية في غزة تمارس صلاحيات حكومة السلطة الفلسطينية في القطاع، وها هي الإدارة المدنية الإسرائيلية تعود للقيام ببعض مهمات حكومة السلطة، تلك التي كانت تقوم بها قبل اتفاق أوسلو.
قليلون من انتبهوا لبيان حكومة السلطة بعد اجتماعها قبل الأخير، والذي أشارت فيه إلى مخاطر قيام الاحتلال بإعداد خطة تهدف إلى مضاعفة عدد العاملين في الإدارة المدنية، التي كان يفترض حلها حسب أوسلو، وتوسيع نشاطها وبدء اتصالها بالمواطنين الفلسطينيين _ ربما كرد على قرار السلطة بوقف كل أشكال الاتصال مع الجانب الإسرائيلي، خاصة التنسيق الأمني _ أياً كان السبب، فإن كل ذلك يعني تكبيل الحكم الذاتي الفلسطيني، حتى يتم التأكد تماماً من أن سلطة الحكم الذاتي لن تتحول ولا بأي حال من الأحوال إلى مشروع دولة فلسطينية مستقلة، خاصة في الضفة الغربية، وأن الممر الإجباري أو التربة الوحيدة الصالحة لأن تنبت شجرة الدولة الفلسطينية هي قطاع غزة، ولا شيء غير هذا، وفي الحقيقة فإن أمرين كلما ظلا قائمين، شجعا إسرائيل على الاستمرار في السير على هذا النهج وفي المراهنة على نجاحه، أولهما_بقاء الانقسام وبقاء لجنة "حماس" الإدارية في غزة، وعدم حلها، ورمي الكرة لملعب رئاسة السلطة، وثانيهما_عدم الرد بانتفاضة سلمية شعبية ومقاومة عنيدة للاحتلال والمستوطنين في القدس والضفة الغربية.
أمريكا تبحث مع السلطة الفلسطينية الاستقرار الاقتصادي بالضفة
22 أكتوبر 2024