فلسطين: بين زيارة كوشنر والمجلس الوطني ومبادرة أنقرة

thumbgen (28).jpg
حجم الخط

 

لا يمكن أن أكتب مقالي الأسبوعي عن احتمالات استئناف المفاوضات بعد جولة الوفد الأميركي برئاسة جاريد كوشنر، وأتجاهل مصير التشاور لعقد المجلس الوطني، ودون أن أتوقف أمام المبادرة التركية للمصالحة التي تتباين المعلومات حولها بين من ينفيها ويؤكدها.

كانت التوقعات التي سبقت مجيء كوشنر متدنية للغاية، وجاءت النتيجة تناسب التوقعات، إذ أكد الجانبان الفلسطيني والأميركي، كل بصياغته، أن المباحثات لم تحدث تقدمًا، كما ظهر في وصف نتائجها بأنها مثمرة، مع التزامهما بمواصلة اللقاءات والجهود الرامية لإيجاد صيغة مناسبة لاستئناف المفاوضات.

ما ميز جولة الوفد الأميركي أنها شملت بلدانًا عربية عدة، ورافقتها اتصالات سعودية وأردنية وقطرية ومصرية مع القيادة الفلسطينية قبل الزيارة وبعدها، ما يؤكد ما أشيع عن المقاربة الأميركية الجديدة التي تناولتها صحيفة "واشنطن بوست"، والتي تعتمد في جوهرها على المقاربة الإقليمية التي تناسب السياسة الأميركية بترك الأمر للمتفاوضين (أي عمليًا بيد إسرائيل) ورفض أي مشاركة دولية، كطريق للتوصل إلى حل للصراع، من خلال زج أطراف عربية، وخصوصًا "القيادات الشابّة"، بالمفاوضات، بعد أن فشلت المفاوضات الثنائية برعاية أميركية منفردة أو دولية شكلية، فضلًا عن الفتات المتمثل برشوة التسهيلات الاقتصادية في الضفة والقطاع.

وتأمل إدارة دونالد ترامب أن تضرب عدة عصافير بحجر واحد: إحياء ما يسمى "عملية سلام"، وتوظيف العرب للضغط على الفلسطينيين لدفعهم لتليين موقفهم عبر توفير غطاء عربي لهم يجعل أي تنازلات فلسطينية محاطة بشبكة أمان عربية ما يسمح بعقد "صفقة القرن"، أو على الأقل بالتقدم على طريق إقامة حلف أميركي إسرائيلي عربي ضد إيران. وفي هذا الإطار يمكن حدوث التطبيع العربي الإسرائيلي بسلاسة، وقبل إنهاء الصراع، ما يجعل المفاوض الفلسطيني في وضع أضعف بكثير مما هو عليه الآن.

ورافق زيارة كوشنر نفي مسؤول أميركي لما نسب لكوشنر عن أن المطالبة بوقف الاستيطان تسقط الحكومة الإسرائيلية، مع أن السلوك الأميركي منذ تولي ترامب سدة البيت الأبيض كف عن انتقاد الاستيطان، مع أنه يتوسع بمعدلات أكبر بكثير من السابق، وسط أنباء عن أن إدارة ترامب ترفض أن تلزم نفسها بما يسمى حل الدولتين مع أنها باتت أكثر انفتاحًا نحوه (يا سلام). مع تصريح مثير يكشف حقيقة الموقف الأميركي من هيذر نويرت، الناطقة باسم الخارجية الأميركية، عن أن الاعتراف بحل الدولتين يمثل انحيازًا!

والأهم مما سبق الأخبار التي نقلتها صحيفة "إسرائيل اليوم"، وأكدتها صحيفة "الشرق الأوسط" نقلًا عن مسؤول فلسطيني، عن تقديم كوشنر أفكارًا لبلورة خطة سياسية بعد فترة من الزمن. هناك مصادر أكدت أنها أربع أشهر، بينما لم تؤكد مصادر أخرى تحديد المهلة. ولكنها بحاجة إلى مصادقة ترامب عليها، وتتضمن الخطة تجميد الخطوات الفلسطينية المزمع الإعلان عنها في خطاب الرئيس في الأمم المتحدة في شهر أيلول القادم مقابل وضع جدول زمني للمفاوضات.

وتشمل تلك الخطوات التي يجري تداولها في كواليس القيادة الفلسطينية تقديم طلب جديد لمجلس الأمن للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين، وتقديم طلب إحالة حول جريمة الاستيطان لمحكمة الجنايات الدولية، والإعلان مجددًا عن ضرورة تحديد العلاقة مع إسرائيل في ظل تنكرها للاتفاقات والالتزامات، على أساس أنه لا يعقل أن يستمر الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية ووضع السلطة التي بلا سلطة إلى الأبد، أي العودة إلى التلويح مجددًا بحل السلطة وإحالة أمرها إلى المنظمة التي أنشأتها، الأمر الذي لم يعد يأخذه أحد على محمل الجد لكثرة تكراره وعدم تطبيقه.

وهنا نسمع من يقول إن الرئيس ليس عنترة بن شداد حتى يرفض إعطاء الإدارة الأميركية مهلة، وإذا فعل ذلك سيتحمل المسؤولية عن الفشل، وسيترك إدارة ترامب لقمة سائغة في فم إسرائيل. متجاهلًا هذا القائل أن الوقت ثمين، وهو من دم وأرض وحقوق، ما يقتضي تغيير المسار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، ووضع خطة متكاملة لوقف التدهور قبل فوات الأوان، وبعد ذلك يمكن مناقشة السياسات والتكتيكات المناسبة، أما الاستجابة للضغوط دائمًا فلا تُبعد الخطر، بل تُسرع حدوثه ويصبح أخطر وأسوأ.

وهذا الأمر يقودنا للموضوع الثاني، وهو عقد المجلس الوطني الذي يبدو أنه مؤجل ولن يعقد في الشهر القادم، وفق تصريحات عزام الأحمد المكلف بالتشاور مع الفصائل وغيرها لتأمين النصاب السياسي، أو أكبر جزء منه.

فقد أظهرت المشاورات أن هناك فصائل أبرزها الجبهة الشعبية ستقاطع الاجتماع إذا لم يكن توحيديًا ووفقًا لما اتفق عليه في اجتماعات اللجنة التحضيرية في بيروت، وهناك فصائل أخرى، أبرزها الجبهة الديمقراطية، تفضل عقد مجلس توحيدي انتقالي (قديم مجدد)، يمهد لعقد مجلس توحيدي جديد، وإذا تعذر ذلك تحدد موقفها في ضوء النتائج السياسية والتنظيمية المنتظرة للمجلس، وهناك من سيحضر في كل الأحوال لضمان حصته الفردية أو الفصائلية، وإلا ستخرج من المشهد كليًا. أما حركتا حماس والجهاد فهما غير مدعوتين للحضور إذا عقد المجلس القديم، مع أن "حماس" في هذه الحالة مطالبة بتحديد موقفها من مشاركة أعضاء كتلتها في المجلس التشريعي الذين هم تلقائيًا أعضاء في الوطني، وتميل "حماس" وفق ما أشار بعض نوابها لترك مسألة مشاركة كل عضو منهم ليقرر وحده المشاركة أو المقاطعة.

هناك عاملان يلعبان دورًا حاسمًا في توقيت عقد المجلس وشكله ونتائجه :

الأول، توفر فرصة، أو حتى وعد أميركي جدّي، بتقديم خطة سياسية خلال مدة معينة، وفِي هذه الحالة لن يعقد المجلس على الأرجح، إلا إذا كان بمن حضر، أو التزم الحضور مسبقًا بتأكيد جوهر النهج الذي سارت عليه القيادة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، مع العلم أن المجلس إذا عُقد سيضطر في كل الأحوال ومهما كان قديمًا أم جديدًا لتبني برنامج سياسي متشدد مقارنة بالبرنامج السائد حتى الآن.

الثاني، هل ستتفق قيادات "فتح" أولًا، وقادة الفصائل ثانيًا، على توزيع المناصب والحصص في المجلس القادم، وخصوصًا الاتفاق على رئيس المجلس، وأعضاء اللجنة التنفيذية؟ وهذا أهميته مضاعفة، لأن القادة "الجدد" سيلعبون دورًا مهمًا في مسألة ترتيبات المرحلة الانتقالية لما بعد محمود عباس.

إن الوضع الفلسطيني الراهن غير قادر على البقاء طويلًا كما هو عليه الآن، لذلك نلاحظ بين الفترة والأخرى تجدد الجهود لإحياء المفاوضات تارة أو لإنجاز المصالحة تارة أخرى، وذلك لملء الفراغ، والخشية من أن تملأه أطراف وخيارات أخرى.

في هذا السياق تأتي الأنباء المتضاربة عن مبادرة تركية للمصالحة، فهي وثيقة الارتباط بالجهود الرامية لاستئناف المفاوضات، حيث يبدو أن هناك مصلحة بإيجاد نوع من التهدئة للوضع الفلسطيني، تتقاطع حولها أطراف عدة لا تريد أن ينهار الوضع في قطاع غزة على خلفية الحصار وتفاقم الأزمات المعيشية، أو في الضفة على خلفية الصراع على الخلافة، أو تحت ضربات التوسع الاستعماري الاستيطاني والضم الزاحف وغيرهما، خصوصًا أن وضع القطاع يجعل احتمال إطلاق صواريخ على إسرائيل أو شن عدوان إسرائيلي جديد على غزة قويًا.

الوحدة الحقيقية ليست على الأبواب رغم الحاجة الملحة والمتزايدة لها،  لأنها بحاجة إلى رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة ومشاركة حقيقية، وهذا غير متوفر لأن الرئيس و"فتح" متمسكون بإعادة القطاع إلى مظلة الشرعية من دون توفير ضمانات لمشاركة "حماس" في السلطة والمنظمة، ولأن "حماس" تائهة بين خيارات متعددة، وتعطي مسألة حصولها على مكاسب جديدة واستمرار سيطرتها على القطاع الأولوية على كل شيء، إضافة إلى عدم وجود تيار وطني ثالث قوي حتى الآن، ليفرض إرادة الشعب على الطرفين.

تأسيسًا على ما سبق، أفضل ما يمكن أن يحدث هو مناورات بين الطرفين و(حلفائهما) يحاول كل منهما تحميل الطرف الآخر المسؤولية عن استمرار الانقسام، حتى لو أدت هذه المناورات إلى الاتفاق على صيغة وحدوية هشة سرعان ما تنهار، مثلما حدث بعد "اتفاق مكة" و"إعلان الشاطئ".