حسن عبد الله " الكاتبة فلورا بقلة تتقوى على معاناة الجلطة الدماغية بكتابها الجديد "

 حسن عبد الله " الكاتبة فلورا بقلة تتقوى على معاناة الجلطة الدماغية بكتابها الجديد "
حجم الخط

كانت تتسامى على وجعها وتجبر قدميها الضعيفتين على السير، لتصل إلى الكلية العصرية الجامعية، على الأقل مرةً كل أسبوع، وهي تحمل معها مسودةً كتابها " الحب له مذاق آخر"، لكي تستمع إلى رأيي في هذه القصة أو تلك، أو ربما لاستشارتي في جانب لغوي أو عنوان.

وكانت تستعجل صدور المجموعة القصصية، وتخبرني عن آخر متابعاتها مع اتحاد الكتاب، وعن الجهة التي بادرت إلى ترجمته للغة الإنجليزية.

وقد سبق لي أن أصدرت لها مجموعتين في السنوات السابقة عن مركز المشرق للدراسات، وأشرفت على كل صغيرة وكبيرة فيهما، احتراماً لرغبتها واكباراً لإصرارها على إضافة الجديد لتجربتها، في كل مجموعة قصصية. فهي مسكونة بالأدب والإبداع، مفعمة بالأمل وحب الحياة، لكن جسمها النحيل لم يحتمل، حيث كانت سلخت من عمرها تسعة وثلاثين عاماً، موظفة إدارية في مشفى رام الله، وتقاعدت حينما تقدم بها العمر وتسلل إلى جسمها المرض، إذ استطاعت أن تنجو من الجلطة الدماغية الأولى بعد أن مسحت جزءًا من ذاكرتها، لتظل تقاوم بالجزء المتبقي، متحدية المرض، مصممة على إصدار مجموعتها.

قبل أربعة أيام وبينما كنت منشغلاً في ورشة عمل، تفقدت هاتفي وإذا بي أجد عشرة اتصالات من زوجها، وعندما هاتفته متسائلاً كان جوابه صادماً، "لقد صدرت عن اتحاد الكتاب المجموعة القصصية الجديدة، لكن فرحة الأسرة منقوصة، لأن "أم فؤاد" أصيبت بجلطة دماغية حادة، افقدتها النطق وما تبقى من ذاكرة"، سارعت غلى الفور لعيادتها، فوجدتها وقد استقرت في سريرها دون حراك وإلى جانبها وضع "أبو فؤاد" كتابها الخارج حديثاً من المطبعة.

تأملت الكاتبة، تأملت الكتاب، تخيلته دامع العينين والحروف والغلاف، تخيلت أبطال قصصها يلومونها على عدم انتظارها بضعة أيام، لتحتفل بحضورهم في قصصها؟

التقطت الكتاب، وتأملت العنوان والغلاف، وتأكدت من الطباعة، تأكدت أن كل شيء على ما يرام إلا أم فؤاد، فقد كانت سابحة في لا وعيها، تنظر شمالاً ويميناً وكأنها تبحث عن شيء أو لا شيء.

قص عليّ "أبو فؤاد" مراحل مرضها وتنقلها من مشفى رام الله إلى بيت جالا، ثم تحدث لي عن معاناة الأسرة المالية، لأنه كان من الصعب صرف الراتب الشهري التقاعدي "لأم فؤاد"، لأنها لا تستطيع الحديث أو التوقيع، علماً أن هذا الراتب هو دخل الأسرة الوحيد، فمنه يأكلون ويسددون نفقاتهم البسيطة، فقلت له سأتوجه إلى اتحاد الكتاب وإلى أمينه العام شخصياً الشاعر مراد السوداني، لعله يتدخل من موقعه لصالح هذه الأسرة الكادحة المصابة الموزعة بين " أم فؤاد " قعيدة المرض وزوجها الذي يتحرك إلى جانبها مساعداً ومواسياً، بالرغم أنه يعاني ضعفاً في السمع بسبب الشيخوخة، لدرجة أنه يقدم معلومات متناقضة عمّا سمعه من الأطباء، معللاً ذلك بأنه يفهم الكلمات في السياق، ولا يستطيع تمييز كل شيء.

وبين الألم والتضامن مع هذه الأسرة، فتحت الصفحة الأولى، قرأت الإهداء، الذي لم أكن قرأته من قبل، على خلاف صفحات الكتاب التي اطلعت على مسودته، فإذا بها قد كتبت:

"إليكم.. أحبائي

الكلمات تصبح نبعات

والأرض شهباً

والأغاني مفعمة بكلماتي

تغني وتغني"

إهداء أقرب إلى الوداعي، هل هي قدرة الإنسان على الشعور بالخطر، أو استشراف القادم، إنها وهي تلوح لنا بمنديلها، تركتنا نغتسل بنبع كلماتها، ونغني معها كلماتها التي ما انفكت تغني وتغني.

"فلور بقلة" وهي تودعنا أبقت لنا مخطوطة أخرى بعنوان مذكرات " غراب في بلاد الأغراب" ظلت بلا خاتمة، أو ظلت خاتمتتها مفتوحة، ربما لتقول لنا ضعوا الخاتمة كما ترغبون وتحبون، أو أبقوها مشرعة على بوابات القدر، بوابات المجهول.