أنا من أولئك الذين يسعدون بالخروج إلى المكان بالسيارة أكثر من المكان ذاته، لأن شريطاً من الأحداث تسجله عيوني وأنا في داخل السيارة، معتقدا بأنني سأرى أشياء قد رأيتها من قبل في أماكن مختلفة، ولكن في جولة باص السوشال ميديا لمدينة نابلس، والتي ضمت عدداً من الصحفيين والإعلاميين والمؤثرين في وسائل الإعلام الاجتماعي، كانت المشاهد التي رسمتها في مخيلتي ليس كما هي.
ليس فقط ما كنت اعتقد بان الحديث عن نابلس سيكون عن جمال معماري القديم وعن الكنافة النابلسية التي تشتهر بها المدينة والتي دخلت من خلالها موسوعة غينتس بأكبر سدر كنافة في العالم بالعام 2009 م ، وصُناع الكنافة النابلسية يقولون بأن سر مذاقها المميز نتيجة مياه المدينة العذبة، ولكن نابلس لا تشتهر في الكنافة فحسب، وإنما في مأكولات العجة والخلطة والكعك والفول والحمص والتمرية والجبنة البيضاء واصابع زينب والحلاوة، وكل أنواع الحلويات التي تتميز بها المدينة، ويقول اهاليها بأن نابلس مدينة لا تقل أهمية عن المدن العشر الرومانية الأثرية، فهي كمدينة جرش الأردنية وقيساريا وفق ما يقول مؤلف كتاب " نابلس مدينة الحضارات " م. نصير عرفات.
مدينة لها طابع معماري خاص وموروث ثقافي من الحضارات التي تعاقبت على المدينة ، البلدة القديمة لها تتكون من ثلاث قصبات رئيسية تمتد من شرقها الى غربها وهي حارات متصلة مع بعضها البعض عبر سلسلة من الأقواس المسقوفة، ومحاطة بسور من المباني القديمة ولها ست عشر بوابة، وفيها حارة " حبس الدم " ويقول أهالي المدينة بأنه المكان الذي كان يقف فيه القاتل حتى يتم اتفاق ما بين عائلة القاتل والقتيل برعاية السلطة الحاكمة ويتفق فيها على الدية وعلى مصير القاتل وعائلته ، فيكون توقيف مؤقت للدم و تطويق الخلاف حوله وقطع سلسلة الثأر المتبادل .
قهوة مخصصة لتقوية عضلات القلب ينتجها محامص ومطاحن بريك في المدينة، وشعرات الرسول الأعظم تحتفظ فيها عائلة البيطار التي آلت إليها مسؤولية شرف الحفاظ عليها والتي حصلت عليها عندما أهداها السلطان العثماني لقاضي نابلس الشرعي الشيخ رشيد البيطار ليتم وضعها في المسجد الحنبلي بالبلدة القديمة،
وهناك في البلدة القديمة توثيق فني لقصص إنسانية لعائلاتها، وبعد هدم عدد من المنازل فيها أصبحت أبوابها بلا مأوى، وتم تجميعها من خلال مؤسسة الشيخ عمرو عرفات " صبانة عرفات " والتي فيها مركزا لإحياء وتنمية التراث الثقافي، ومن خلاله رسم أطفال البلدة حكايات وقصص أثرت بهم، فهناك طفلا عمره 15 عاما ترجم قصة اعتقاله لدى الاحتلال الإسرائيلي لمدة عام في رسم عينا وكتابا وشمعة، وهناك من ترجم قصة استشهاد والده ورسمها بقصة.
وفي قلب حارة الياسمينة حوش العطعوط " حوش الفاخورة " الذي يضم أكثر من 25 منزلا ً وحسب النص الذي يوثق حكايته بان الرئيس الراحل ياسر عرفات بعد حرب العام 1967 م خطط للثورة الفلسطينية من الحوش، والاعداد للانطلاقة الثانية وتشكيل الخلايا العسكرية الأولى في داخل الأرض المحتلة.
وفيها نبع القريون، الذي يعد المورد الرئيسي للمياه للمدينة، والذي يعكس الهوية النابلسية لأهاليها وتعمل بلدية نابلس على ترميمه بين فترة وأخرى، ويعتبره أهاليها بأنه ريق المدينة العتيق عندما قام الاحتلال الإسرائيلي بقطع المياه عند البلدة القديمة في انتفاضة الأقصى الثانية.
في باب الساحة شرقي مسجد النصر، قهوة الشيخ قاسم وتسمى أيضا بقهوة الافندية، من أقدم المقاهي في المدينة يصل عمرها أكثر من 100 سنة تقريبا ً، تتسم بالبساطة في كل شيء، في المشروبات التي يقدمها وفي المكان المزين بالداليا والبركة، والاجمل من ذلك بأن كراسي وطاولات المقهى لا ليست صحيحة فهي إما مكسورة او غير متزنة في المكان وهو ما يذكر أهالي المدينة بالزمن الماضي الجميل.
وكانت محطتنا الأخيرة في شارع غرناطة مقابل مدرسة الفاطمية القريب من مكتبة بلدية نابلس، حيث مقهى الهموز من أقدم المقاهي في الضفة الغربية وأنشأ في العام 1892 م، وشهد أحداثا تاريخية مناسبات وطنية مهمة، فيصل عمره لأكثر من 120 سنة تقريبا ً، وكان الناس يجتمعون به لسماع القران الكريم من الإذاعة المصرية والحكواتي، وغنت فيه كوكب الشرق ام كلثوم " يا بدر اختفي " في مسرح المقهى، وغنى فيه " فريد الأطرش وأسمهان ومحمد عبد الوهاب " بالإضافة الى الشاعر إبراهيم طوقان والأديب أكرم زعيتر.
وقبل دخولنا إلى المقهى، قيل لنا من قبل منسقي باص السوشال ميديا في نابلس بأن المقهى لا يعرف " هوت شوكليت ولا كوكتيل ولا وموكا ولا غيرها، فهو يقدم الشاي والقهوة وعصير الليمون واليانسون والزهورات، وارجيلة التمباك فقط.
إن جمال نابلس وحاراتها وقصباتها هي تجربة شعور لا يمكن تلخيصها في نص واحد، وإنما يحتاج إلى نصوص طويلة لأن لكل زاوية في المدينة حكاية وتكمن متعة المكان مع من نحب، فكان باص السوشال ميديا فريقا متميزاً كل فرداً منهم يوثق صورة وكلمة لينشرها إلى عالم السوشال ميديا.