رولا شهوان " المكتبة الوطنية... اهمية القرار وابعاده "

المكتبة الوطنية... اهمية القرار وابعاده
حجم الخط

أثار قرار السيد الرئيس محمود عباس بتحويل بيت الضيافة الى مكتبة وطنية جدلا واسعا في اوساط نشطاء التواصل الاجتماعي والمهتمين، فبين معارض لهذا القرار لان البناء غير مجهز وتكلفته عالية جدلا لان تكون مكتبة وطنية، واخر مؤيد ويعتبر ان مثل هذا القرار كان يجب ان يتخذ منذ سنوات وفور تشكل السلطة الوطنية الفلسطينية، ان هذا القرارا من وجهة نظري قراراً تاريخياً من حيث اهميته، وفي حال تم تطبيق وتنفيذ هذا المرسوم من خلال العمل على مأسسة هذه المكتبة، سنكون بدأنا نهجاً جديداً على الارتقاء بوعينا واولوياتنا التي تعي اهمية حفظ تراثنا المنهوب والمسلوب.

 

ففي ظل الانقسام والتشتت والتشرذم الذي تشهده الساحة الفلسطينية، اصبحنا اكثر من اي وقت مضى بحاجة الى ترميم وتدعيم هويتنا الفلسطينية، ولعل الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني هي من اهم مكونات هذه الهوية، فهويتنا الوطنية هي انعكاس للماضي الفلسطيني بما يحمله من انتصارات وخيبات ومعاناه وتهجير ومقاومة، وكل هذه المكونات لا يمكن حفظها وصونها ونقلها للاجيال القادمة من دون وجود جسم حافظ لهذه الذاكرة، فهويتنا الحالية كفلسطينيين ما هي الا انعكاس للماضي ومرآة للمستقبل.

 

"الذاكرة الجمعية" كمفهوم تم تناولها من عدد كبير من علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، فإميل دوركهام ( mile Durkheim) اول من تحدث عن اهمية الذاكرة الجمعية من اجل استمرارية وحدة وتماسك هذه المجتمعات، كذلك العالم الفرنسي موريس هالبواكس ( MurieceHalbwach ) الذي الف اول كتاب عن الذاكرة الجمعية 1925، واعتبر عملية التذكر الفردية لا يمكن أن تنشأ أو أن تتم إلا ضمن إطار اجتماعي خاص، فعلى العكس مما كان سائداً في ذلك الوقت, حيث كان ينظر إلى الذاكرة وعملية التذكر الفردية كوظيفة بيولوجية محضة, الا ان هالبواكس ربط الذكريات الشخصية للفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه, واعتبر أن الإطار الاجتماعي ـ والذي تنشئه الثقافات المختلفة - هوالذي يشكل النسق الجمعي ويجعل التجارب الفردية قابلة للتذكر و للانطلاق، بحيث تصبح الذاكرة شيء حتمي لاستمرارية اية جماعة.

 

لا يمكن لنا ان ندرك هذا القرار القاضي بتخصيص هكذا مكان من اجل انشاء المكتبة الوطنية التي هي مكون رئيسي من مكونات بناء اية دولة وطنية ديمقراطية، الا اذا استذكرنا خطاب غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل عندما اعلنت في خطابها 1969 ( لا يوجد شعب يدعى فلسطيني، فليس لهم وجود)، فبعد مرور كل هذا الوقت ما زال هناك شعب اسمه فلسطين له ارث ثقافي، تاريج، وحضارة، لكن هذه الارث لا بد ان يحفظ ويصان بكل السبل المتاحة، يكون جاذبا للدارسين والباحثين والمهتمين، ان وجود هذه المكتبة الوطنية انما يعكس قوة الرواية الفلسطينية التي ستعتمد عليها الاجيال القادمة لمواجهة العنجهية والعنصرية الاسرائيلية، ومن اجل صياغة رواية فلسطينية مستندة الى الوثائق والحقائق التي تثبت صحة هذه الرواية ،وتدعم قدرتها على مواجهة اية رواية استعمارية مضادة.

 

أن اهمية هذا القرار سوف تتجلى في القوة التي سوف تعكسها هذه المكتبة كحافظة للموروث الثقافي والحضاري الفلسطيني، وهنا لا بد ان نستشهد بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكوMichel Foucault) ) الذي اكد أن القوة تكمن بالمعرفة، فمن يملك المعرفة يملك القوة".

لذ لا يمكن ان تكون روايتنا قوية ومقنعة على جميع المستويات، والمحافل الدولية مالم نكن نملك المعلومة والوثائق التي تثبت صحة واحقية هذا الشعب في ارضه واستقلاله، هذا الشعب الذي تعرض لابشع انواع السرقات الممنهجة في التاريخ الحديث. وهذا ما اكدته الباحثة والدكتورة الاسرائيلية رونى سيلا (Rona Sela) عندما تحدثت عن مئات الافلام والوثائق المنهوبة والمدفونة في ارشيفات جيش الاحتلال الاسرائيلي، واكدت هذه الباحثة في مقالتها ان الجيش الاسرائيلي اثناء اجتياحه للبنان في العام 1982، قام بسرقة كل الوثائق والافلام التي كانت محفوظة في المزكز الفلسطيني للدراسات والابحاث، وان هذه الافلام مبوبة ومعنونة بطريقة تعكس الرواية الاسرائيلية، ووجهة النظر الاسرائيلية للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، من هنا نلمس محاولات الاحتلال المستمرة لتدمير الذاكرة الفلسطينية ومحوها، وذلك لفسح المجال لرواية واحدة هي رواية الاحتلال، الذي يعي تماماً اهمية الذاكرة الجمعية للشعوب ، وهو الحريص على خلق هذه الذاكرة الجمعية لشعبه لتبرير روايته واجرآتة العنصرية ، لذا علينا ايضاً ادراك اهمية الذاكرة الجمعية وضرورتها الماسة لتشكيل الرواية الفلسطينية عن الماضي، والتي هي جزء لا يتجزأ عن الهوية الوطنية الفلسطينية ، هذه الهوية التي لا يمكن عزلها او فصلها عن الاحداث والنكبات والنكسات التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ، والمحاولات المستمرة من قبل الاحتلال الاسرائيلي لتدمير هذه الهوية، وتفريغها من محتواها وسرقة مكوناتها الثقافية والوطنية، لذا لن يكون مبالغا به تخصيص هذا المكان (بيت الضيافة) للمكتبة الوطنية لانها هي الحافظة والحامية للهوية الفلسطينية ، وهي ضرورة ملحة ومكون رئيسي من المشروع الثقافي الفلسطيني ، بل جاءت تتويجا له.

 

أن وجود مكتبة وطنية تحتوي على ارشيف الوثائق، والمخطوطات، والكتب، والافلام في هذا الوقت بالذات له اهمية بالغة، خاصة في هذه المرحلة التي يتجسد فيها الانقسام، ويتعثر فيها مشروع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، هذه المرحلة الانتقالية يحتاج فيها الفلسطينيون الى اعادة احياء العوامل الموحدة لهم، كما ذكر بندكت اندرسن في كتابة "الجماعات المتخيلة"، والذي اكد فيها على ضرورة خلق وايجاد او احياء عناصر ثقافية جامعة وموحدة للمجموعات ، هذه العناصر تكمن في اللغة والثقافة التراث والرموز الوطنية والماضي المشترك.

 

ان من اهم مهام المكتبة الوطنية هي العمل اولا على ايجاد آلية عمل وقوانين ناظمة لها، تسهل عملية التوثيق والجمع للأرث الثقافي، ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى الدولي، فالقوانين والتشريعات الدولية ضمنت لاي دولة تحت الاحتلال استعادة ارشيفها ووثائقها التي صدرت في فترة سيطرت الدولة المحتلة على اراضي البلد المحتل، حيث يمكن الاستناد لهذه القرارات الصادرة عن الامم المتحدة ومنظمة اليونسكو من اجل استعادة آلاف الكتب والمكتبات الخاصة والمحفوظة تحت بند املاك الغائبين في المكتبة الوطنية الاسرائيلية، كذلك يمكن استعادة ايضاً ارشيفنا المنهوب والمخزن في الارشيفات الاسرائيلية.

 

ويمكن في هذا الاطار الاستفادة من تجرية الشعب الجزائري الذي عانى من الاحتلال الفرنسي لاكثر من قرن، وقبل يومين من اعلان الاستقلال 1962 ، قامت شاحنات كبيرة تابعة للجيش الفرنسي بنقل كل الوثائق والارشيفات الى فرنسا، والاحتفاظ بها في المكتبات والارشيفات الفرنسية، وشكلت لجان وعقدت اتفاقيات تعاون بين الطرفين من احل استعادة ذاكرة الشعب الجزائري، الا انهم بالرغم من مررور اكثر من نصف قرن على انتهاء الاحتلال لم يفلحوا من استعادة كامل ارشيفهم، لكن نسخ من هذه الارشيفات سلمت للمؤسسات الارشيفية وخاصة الارشيف البصري الذي تم تسليمة للتلفزيون الرسمي الجزائري.

 

على القائمين على هذه المكتبة العمل بجهد كبير على اثراء هذا المكان بالمحتوى، والاستثمار في جمع واحياء الذاكرة الفلسطينية، وتشكيل وادارة جيدة قادرة على توحيد الجهود المبذولة سابقا لجمع الارشيف والتراث، التي في اغلبها كانت شخصية، وتعتمد على جهود افراد ممن لديهم الوعي والإدراك لأهمية الذاكرة الجمعية لبناء دولة فلسطينية مستقلة، لها تاريخ وحاضر ورواية مدعمة وقوية للمستقبل وللاجيال القادمة ، بحيث تؤهلهم للاستناد عليها في نيل حقوقهم وحريتهم المسلوبة.