كالڤن، مؤلف انطوائي، تلظى بسلسة علاقات فاشلة، يحلم بالإرتباط بفتاة مُتخيلة تهيم به بمواصفات ترسمها مخيلته بمنتهى الدقة. ينخرط محموماً في كتابة رواية تصف هذه الفتاة بدقائقها. يستيقظ في اليوم التالي ليجد الفتاة ذاتها بلحمها ودمها واسمها معه في نفس البيت، "روبي". خيال داخل الرواية وداخل النصّ يصنع واقعاً مذهلاً.
تتصرف الفتاة تماماً كما رُسم لها في السيناريو الذي يكتبه، خُلقت من أفكاره المحضة، وعجن صلصالها برغباته المشتهاة، في إعادة انتاج بديع لاسطورة التجسد "بيجمايليون".. كل ما أراده فيها كان، وكل ما يريد يكون، وكل تغيير مطلوب في طباعها وسلوكها يحدث مباشرة فور طباعة الكلمات على آلته الكاتبة، كافٌ ونون. هام بها. ولأنه أحبها.. قرر فجأة أن يكف عن الكتابة لتصنع هي قدرها، لا هو. تركها تتصرف على سجيتها وطبيعتها خارج النصّ! فكانت المفاجأة! — لن أحرق بقية المتعة لمن يريد مشاهدة فلم Ruby Sparks. النص لليونانية الاميركية "زوي كازان" وهي من لعب باقتدار دور روبي أيضاً!
طرح ذكي وعمقٌ فلسفي مدهش لقصة القَدَر والمكتوب، هي جوهر حكاية الإنسان في صراعه بين مشتهاه وقدره، بين الجبر والتفويض، بين الغيب والكشف، بين العرش والفرش، فسنام الأخلاق؛ الإرادة الحرة والحق في الاختيار. تاريخ فلسفي وميثولوجي وديني صاخب، يُصقل في قصة واحدة سهلة ممتنعةٍ وممتعة. نحن البشريون مأخوذون بالنص، تغوينا القصة، السرد والحكاية. وجعلنا لها فنوناً، كانت وما زالت مقياساً للجدارة وعلو الشأن والرفعة. خير أهل الأرض أفضلهم سرداً وأجملهم رواية. وكان هذا عينه التحدي الإلهي الأبرز في آخر فصول حكاية النبوة الطويل بين “الحق” و”الباطل” بين “الهداية” و”الايمان”، تمثل باستعراض سردي هائل جاء قرآناً تنزل في مجتمع النخبة اللغوية. وبرز النص الإلهي يطلب خصماً يبزه في النزال والجمال: “قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله” ]يونس [٣٨. هل أَعلن أيُ نص آخر هذا التحدي بهذا الكبرياء قبلاً! تلعثم فحول اللغة وقتها وأُسقط في ايديهم، قهروا بنص جميل، بالجماليات. والجماليات aesthetics “كعلم” تبلور في أحضان الفلسفة الألمانية (كانط - شيلر - ليبنتز - وولڤ - ثم باومجارتن). وفي مستوياتها المتقدمة؛ أن لا بد للجمال أن يُقدم جماليته ببساطة تخفي معرفة عميقة وتعقيداً هائلاً، وتُمتع. البساطة ليست بسيطة، البساطة رؤية، البساطة أعلى مستويات التعقيد.
حقيقة، بعض نصوص الأفلام الهائلة في جمالها، تمنحك أجنحة تحلق بك فوق جُرفك. وجبة مدهشة من المتعة، متعة الدهشة، تسمى لحظتها الأولى الأورا aura، سطوة حالة جمالية لا تتكرر، في بعد زمكاني لن يتكرر. تلقب السينما بالفن السابع، وكان هذا قبل أن تتمكن من ابتلاع الفنون الستة، وتكون هي الأهم والمتصدرة في خطورتها وتآثيرها الممتد والعابر. بقدرتها الهائلة على الادهاش، فسميت “بإله العصر”.
بعد هكذا مشاهدات، تصاب بحنق شديد وغيظ أشد على رداءة ما ننتجه عربياً عموماً من بله ونمطية واستغباء في متلازمة تتبع كل مشاهدة رديئة. وكأن الحالة عندنا عموماً تعاني من إخصاء إبداعي بإشراف مختصين. مجيدوها بحق لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. كتابة السيناريو في بلادنا تعاني بشدة، تتلوى تحت وطأة التقليد والإصرار على وأد الدهشة. وفي مقابل ذلك، يُنفق على إعادة انتاج البلاهة والمتوقع بنصوص مبتذلة ببذخ واحتفاء. فلسطينياً، ما زلنا عاجزين على تقديم روايتنا سينمائياً أو دراما بجمالية وذكاء وبساطة قادرة على الإدهاش.
من فقد القدرة على الإدهاش أو الإندهاشّ، فبطن الأرض خيرٌ له من ظهرها.