منع الدولة اللبنانيّة من التفاوض، بهدف استخدام الموضوع إقليميّاً، أكثر ما أدّى إلى مأساة الجنود الثمانية، وإلى الأسى العميق لمأساتهم. هذا، على أيّ حال، يستدرج النقاش إلى مسألة أبعد تطال مبدأ «منع» الدولة.
فإذا استثنينا مراحل الحرب الأهليّة، وبالتالي تعطّل تلك الدولة، وُلد هذا المنع في فترة 1969–1973، قبل أن يصلّبه التطبيق المعروف لاتّفاق الطائف.
في 1969 كانت «اتّفاقية القاهرة» التي أقرّت ازدواجاً سلاحيّاً، ومن ثمّ سياديّاً. في 1973، أريد توسيع العمل بهذا الازدواج اغتناماً لـ «فرصة» العمليّة الإسرائيليّة التي أودت بالقادة الفلسطينيّين الثلاثة في فردان.
لكنْ بعد اتّفاق الطائف صار منع الدولة شرعيّاً، واتّخذ شكلين: ممنوع أن تنشأ ديبلوماسيّة لبنانيّة مستقلّة تفاوض وتحرّر الأرض المحتلّة سلماً، وممنوع أن يتّجه الجيش إلى الحدود الجنوبيّة. معظم الغضب الذي انصبّ على رفيق الحريري صدر عن هذين المنعين.
وفي الدفاع عن سياسة المنع بشقّيه كانت تُستحضر معاهدة 17 أيّار (مايو) 1983. ذاك أنّه حين كانت الدولة قويّة، ولو قوّةً نسبية جدّاً ومهتزّةً جدّاً، فاوضت الإسرائيليّين على الانسحاب، وتوصّلت إلى الاتّفاق حول ذلك، من دون الاضطرار إلى توقيع معاهدة سلام. يومذاك، كما نذكر جيّداً، خاضت القوى المتحالفة مع دمشق عدداً من الحروب في الجبل والضاحية الجنوبيّة وفي بيروت نفسها لتحطيم قدرة الدولة على التفاوض. لتحطيم قدرتها على أن تكون دولة. لمنعها ممّا هو أقلّ ممّا فعلته الدولة المصريّة قبل خمس سنوات، وممّا فعلته منظّمة التحرير الفلسطينيّة بعد عشر سنوات، وممّا فعلته الدولة الأردنيّة بعد أحد عشر عاماً.
حينذاك، وبالاستفادة من اعوجاج عمل الدولة، تبدّى نفاق الأيديولوجيا على هيئتين:
الأولى، أنّ المعجبين بحكم حافظ الأسد، بسلطاته وصلاحيّاته، لم تعجبهم سلطات وصلاحيّات رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة! إنّها رئاسيّة فائضة، كما قالوا. الرئاسة المعقولة نجدها في دمشق. في بغداد. في طهران. في عدن. في موسكو... لكنْ ليس في بيروت!
الثانية، أنّ الذين كانوا يعدون بغدٍ جديد، تشرق فيه مواطَنة عابرة للطوائف، أخذوا المسيحيّين رهائن لهم، أو هجّروهم من مناطقهم، ضغطاً منهم على الرئيس المسيحيّ الذي كانه أمين الجميّل.
يومذاك تأسّست القدرة على منع الدولة ومنع الجيش.
مرض نسيان ذاك الماضي القريب لا يفيدنا في فهم «حزب الله» وأسباب تمدّده. هو لم يسقط علينا من سماء صافية. أحد مصادره هو تقليد العداء للدولة والرغبة في كسرها. «حزب الله» وحده استطاع تحويل هذه الرغبة إلى واقع نافذ لا يقبل النقاش.
وهذه الدولة التي كانت دولتنا ولدت معطوبة وعاشت معطوبة. وضعها كان إلحاحاً صارخاً على طلب الإصلاح، لا الكسر. فوق هذا، فكسر الدولة ليس سيّئاً بالمطلق، وكثيرة هي الدول التي كان كسرها، ولا يزال، شرطاً لاستئناف الحياة الكريمة لمواطنيها.
ما حصل في لبنان، ويجد اليوم تتويجه في «حزب الله»، أنّ الكسر ليس استجابة لرغبة التغيير، ولا استجابة لطلب الداخل. إنّه غير مسبوق ببدائل متبلورة تحظى بدرجة إجماع عابر للطوائف، ولا مرفق بأشكال من الوعي متقدّمة على الوعي المصاحب للدولة المذكورة. إنّه لا يحمل وعداً باقتصاد أفضل أو بتعليم أفضل. ما يعانيه من فقر في الأفكار والمعاني يجعله أشبه بـ «برنامج» شعبولا من أنّه يكره إسرائيل!
و «برنامج» شعبولا يتعايش مع إبداء العشق لدولة مكسورة كالتي نراها اليوم: معشوقة لأنّها مكسورة، لا لأنّها دولة. لأنّ كسرها يفيد جماعة بعينها في الداخل، ودولة بعينها في الخارج.