القومية الأمريكية: أنواع دارون أم تغريدات ترامب؟

31qpt995.jpg
حجم الخط

لم يعد تعبير «القومية الأمريكية» غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام، وليس هذا بسبب صعود دونالد ترامب، وتنامي النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات «التفوّق» العرقي الأبيض، فحسب، بل، كذلك، لأنّ الولايات المتحدة لم تعد حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ـ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ـ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك. وبهذا المعنى، لم تكن مفاجأة أن يعالج الكاتب الأمريكي المعروف روبرت د. كابلان مسائل السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة، وموقع أمريكا في العالم، بل الديمقراطية الأمريكية ذاتها، من منطلق القومية بوصفها مقولة مركزية.
وفي مقالة مسهبة، نشرتها «ناشنل إنترست» مؤخراً تحت عنوان «قومية أمريكا الدارونية»، يبلغ كابلان سلسلة خلاصات حول واقع حال الولايات المتحدة راهناً، أوّلها أنّ أمريكا، أسوة بروسيا والصين، فقدت هدفها الإيديولوجي والروحي، بمعنى عزوف الأمريكيين عن حماسهم السابق بصدد بناء نظام ليبرالي في أوروبا وآسيا، على غرار ما فعلوا طيلة 70 سنة: «بينما انتعشت الديمقراطية الأمريكية وكانت قدوة مضيئة في عصر الطباعة والآلة الكاتبة، فإنّ من غير المؤكد أنها ستواصل هذه الحال في حقبة الفيديو والرقميّ»، يكتب كابلان. ومن الواضح، في يقينه، أنّ قرار الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما برفض التدخل في سوريا، وقبله التدخل في ليبيا عن طريق القصف الجوي فقط، كان قد آذن بانطواء صفحة «مشروع أمريكا شبه الإمبريالي، المبنيّ على أغراض متسامية».
والحال، أوّلاً، أنّ إدارة أوباما تدخلت بالفعل في سوريا والعراق، عبر القصف الجوّي أوّلاً، ومن خلال تحالف دولي قوامه الولايات المتحدة أساساً. كذلك تدخلت على الأرض (وذاك كان واحداً من محرّمات أوباما الكبرى)، حتى إذا كان التواجد العسكري الأمريكي الميداني قد بدأ من الخبراء، ثمّ أخذ يتوسع تدريجياً ليشمل العشرات، فالمئات. صحيح أنّ هذا التدخّل ليس من طراز ما أقدمت عليه الولايات المتحدة في بناما والصومال وأفغانستان والعراق، وهذا فارق أوباما الوحيد عن نهج أسلافه، إلا أنّ الصحيح الآخر يشمل سلسلة تفاصيل عملياتية وتسليحية تجعل من هذا التدخل جديراً بتسميته: إذا كان يسير مثل بطّة، ويطلق أصوات البطّ، فهو بطة… تماماً كما يقول المثل اليانكي الشائع!
هذا إذا وضع المرء جانباً أشكال «التدخل» الأمريكي الأخرى، التي تقوم على التصفيات الجسدية عبر الطائرات بلا طيار، في اليمن وأفغانستان وباكستان، والتي يمكن أن ترقى إلى مصافّ جرائم الحرب، في عرف منظمات حقوقية عالمية مثل «أمنستي إنترناشنل» و»هيومان رايتس وتش». ذلك لأنّ هذه العمليات لا تستهدف أفراداً، بقصد الاغتيال، خارج أية تغطية قانونية أو قضائية، فحسب، بل تتسبب في مقتل عشرات المدنيين أثناء العمليات، التي تُنفّذ عشوائياً في حالات كثيرة. ولا تنفصل عن خيار الطائرات بلا طيار حقيقة أخرى، هي أنّ الولايات المتحدة تخرق القانون الدولي حول قواعد الحروب والاشتباك، مثلما تنتهك سيادة الدول التي تشهد تنفيذ تلك العمليات. 
خلاصة كابلان الثانية هي التالية: بينما يكون في وسع الأمم الأخرى أن تمثّل ذاتها فقط، فإنّ على أمريكا أن تمثّل الإنسانية جمعاء، بمقدار معقول نسبياً، أو أن تطمح إلى هذا على الأقلّ! هنا، أيضاً، ينطلق الرجل ـ في اعتراف صريح، وهذا بعض فضائله القليلة ـ من ركائز عقائدية تمزج بين النزعة المحافظة والفلسفة الليبرالية، على نحو يجيز له التغنّي بأفكار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر حول «الذرائعية البنّاءة» بصفة خاصة، وأطروحات صمويل هنتنغتون الشهيرة التي تنبأت بصدام الحضارات قبل السياسات. 
و«رغم أنّ توسيع ذلك النظام الليبرالي العالمي قد يكون أكبر من طاقة الولايات المتحدة، إلا أنّ الانسحاب منه ببساطة سوف يقود إلى أفول أمريكي»، يكتب كابلان، المؤرّخ الذي يزعم حفظ تاريخ أمريكا عن ظهر قلب، متناسياً تلك الحقائق الأخرى التي تدحض ما يذهب إليه، دحضاً تاماً في الواقع!
ذلك لأنّ الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن، لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة (الزائفة) بالذات: النظام الليبرالي العالمي! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من «واجب مقدّس» أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، وأطلق عليه سلسلة تسميات، منها «الإمبراطورية بالصدفة العمياء»، و«الإمبريالية بالتطوّع»، و«العبء الجديد للرجل الأبيض». وفي كتاب بعنوان «السلام الأمريكي» صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، يقول رونالد ستيل: «على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا»!
خلاصة ثالثة، أكثر طرافة، وأشدّ وفاءً لروحية كتابات كابلان، هي تلك التي تنتهي إلى أنّ صراعات القوى الكبرى في القرن الراهن لن تدور حول الإيديولوجيا، بل ستكون ثقافية، مختبئة في الهواء الطلق تحت ستار النزعة القومية: «النصر سيكون حليف الثقافة التي تطوّرت على نحو أفضل لخوض حرب سريعة شاملة على مستوى الدولة. وهذه السيرورة سوف تكون دارونية»، يكتب كابلان، مشيراً إلى شارلز دارون ونظريته حول بقاء الأنسب. وللمرء أن يتخيّل مصداقية هذه الفرضية، إذْ تأتي اليوم تحديداً، في أمريكا ترامب ويقظة العنصرية في شارلوتسفيل، وتأتي من هذا الكاتب تحديداً، الذي لم يتوقف عن إنتاج المزيد فالمزيد من مزاعم التحذير حول مخاطر انحطاط الإمبراطورية الأمريكية!
هنا تقتضي الضرورة التذكير بأنّ كابلان كاتب ومفكر سياسي غزير الإنتاج، وصحافي ورحّالة وديموغرافي وإثنوغرافي… هو، في تسمية أخرى لا ينفر منها بل تروق له، «عرّاف القرون» الكفيل بقراءة غيوب السياسة الدولية وتلاوة تفاصيلها عن ظهر قلب، ولعلّ هذا «الاختصاص» في قراءة كفّ القرون، وليس العقود وحدها، أو حتّى أنصاف القرون، هو ما يبرّر الخيط الرفيع المتين الذي يزعم الرجل أنه يجمعه بكلّ من دارون (1809ـ1882)، أو نظريته في الانتخاب الطبيعي بصفة محددة، وتوماس روبرت مالتوس (1766ـ 1834)، القسّ البريطاني، ونبيّ التشاؤم الاقتصادي الكوني.
ليس هذا فقط، بل إنه، بعد هزّة 11/9، خروج على العالم بنظرية صاعقة تفيد أنّ الغرب صار بحاجة ماسة إلى… تلبّس الروح الوثنية! كتابه «سياسة المحارب: لماذا تحتاج القيادة إلى روح وثنية»، لم يمنح فضيلة الشكّ لصالح جورج و. بوش، الخارج إلى أفغانستان والعراق بروح القرون الوسطى وإلهام الملك آرثر وحمية فرسان المائدة المستديرة، فحسب، بل أراد له أن يتحلّى بالروح الوثنية الخالصة: تلك «الحكمة» الواقعية المتحرّرة من أيّ وكلّ مثال ومثالية، التي تميّز بها أضراب المؤرّخ الأثيني ثوسيديديس (400 ق. م.)، والسياسي والكاتب الإيطالي نيكولو مكيافيللي، والفيلسوف السياسي الإنكليزي توماس هوبز، ورجل الدولة البريطاني ونستون تشرشل…
بذلك فإنّ من حقّ عنصريي شارلوتسفيل، وأنصار منظمة الـ»كو كوكس كلان» في طول أمريكا البيضاء وعرضها، أن يلهجوا بالدعاء لأمثال كابلان، وأن يرفعوا عالياً أفكاره التي تبدو وكأنها تحذّر أمريكا من التقوقع خلف نزعة قومية انعزالية، في حين أنها تُنذر بضرورة إعلاء شأن تلك النزعة: إنْ لم يكن عن طريق نظريات أصل الأنواع الدارونية، فعلى الأقلّ عن طريق… تغريدات ترامب القومجية!