منذ انتهاء الحرب الباردة، مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي منذ نحو ثلاثة عقود،a والولايات المتحدة الأميركية تبحث عن أعداء «وهميين» تبرر بمحاربتهم استمرارها في إنتاج السلاح، وتصديره، كذلك في أن تظهر للعالم قيادتها المنفردة له، في كل أنحاء المعمورة، ذلك أنه بقدر ما كانت نتيجة الحرب الباردة تعتبر انتصاراً للغرب الرأسمالي وهزيمة للمعسكر الاشتراكي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغسلافي، وكذلك تشيكوسلوفاكيا وسقوط الأنظمة الشيوعية في كل دول شرق أوروبا التي كانت محكومة به، بقدر ما ظهرت تحديات من نوع آخر ومن مناطق أخرى لتفرد واشنطن بقيادة العالم.
ظهر الاتحاد الأوروبي معززاً بتحالف ألمانيا، القوة الاقتصادية المهولة في أوروبا والعالم، وفرنسا القوة السياسية المهمة، التي تتمتع بحق النقض_الفيتو في الأمم المتحدة، وظهر التنافس الاقتصادي كبديل عن القوة العسكرية في تحقيق النفوذ والسيطرة في العالم، وهكذا ظهرت كل من ألمانيا واليابان كقوتين بدأتا في إعلان حقهما في الحصول على حق النقض_الفيتو في المنظمة الدولية، اعترافاً من العالم بأنهما دولتان مركزيتان في الاقتصاد العالمي، ثم ظهرت الصين كقوة اقتصادية هائلة، إذا ما أضيفت قوتها الاقتصادية إلى قوتها العسكرية، وهي الدولة الشيوعية الوحيدة التي أنجزت التحول إلى اقتصاد السوق دون انهيار دراماتيكي للنظام، فإن الحديث يكون عن دولة إن لم تكن أقوى من أميركا فهي ند حقيقي لها، خاصة وأنها تتمتع أيضاً بحق النقض_الفيتو في مجلس الأمن.
ثم عادت روسيا لتخرج عن إطار التأثير والتحكم الأميركي الذي ظهر في عهد بوريس يلتسين، وسرعان ما تدحرجت كرة الثلج، لتبدأ روسيا في تحدي أميركا بأكثر من مكان، كان أوضحهما في أوكرانيا أولاً وسورية ثانياً.
احتارت مراكز البحث الإستراتيجي في واشنطن بتحديد أي العوالم تبدأ بها أولاً الولايات المتحدة لتعيد قيادتها المنفردة للعالم، وبعد طول تفكير وبحث اهتدت إلى أن العالم العربي/الإسلامي هو أضعف الحلقات، فكان أن وجدت ضالتها في نظام طالبان_القاعدة، التنظيم الذي كان من صنيعتها وحلفائها إبان حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي لها، وتعاملت واشنطن مع القاعدة، رغم احتلالها لكابول وإسقاطها نظام حكم طالبان بعد عملية برجي التوأم في نيويورك، على أنها قوة عالمية، جندت للحرب عليها الكون بأسره، وفرضت على حليفاتها التقليديات في أوروبا حالة من الاستنفار ضد كل ما هو مسلم، بحجة أنه متطرف، وأعلنت حرباً عالمية ثالثة لتقود العالم كله ضد ما أسمته بالإرهاب.
وحصرت عدوها بالطبع في القاعدة، وكأن القاعدة كانت تمتلك قنابل نووية أو أنها كانت تسيطر على نصف الكرة الأرضية، وليس أنها مجرد بضعة آلاف من المقاتلين الذين يعتمدون حرب العصابات، وينتشرون في الجبال الوعرة، لكن واشنطن بقدر ما كانت بحاجة لعدو وهمي، كانت بحاجة لتحقيق الانتصارات الوهمية، لتقنع بقية العالم بأنها القوة العسكرية والاقتصادية الأولى، وبأنها جديرة بأن تظل قائدة للدنيا دون منازع.
ثم خلقت من صدام حسين عدواً وهمياً، وادعت أن لديه قنابل بيولوجية وسلاحاً كيماوياً، وفرضت مجوعات التفتيش الدولية على العراق، وحين تأكد خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل شنت عليه الحرب بعد حصار دام ثلاثة عشر عاماً، أي حين تأكدت أن حربها ستكون حرباً «سينمائية» لا تواجه فيها عدواً حقيقياً، لدرجة أنها احتلت بغداد بعد أيام معدودات!
ثم توالت الفصول، لتقدّم واشنطن على فتح بعض المجتمعات العربية، لتكرار تجربة أوروبا الشرقية، لتظهر جماعات متطرفة، منها «داعش» في شمال سورية والعراق، والتي وجدت فيها واشنطن مجدداً ضالتها بعد استنفاذ القاعدة، لدرجة أن تجند تحالفاً دولياً لمحاربة «داعش»، وكأن «داعش» بقواتها التي لا تتجاوز بضع عشرات الآلاف بالأسلحة الفردية، ودون أدوات الحرب التكنولوجية الحديثة، قوة عظمى، لكنها كافية لتكون أداة لمواصلة فصول المسرحية الأميركية المملة إلى حين أن يقع الخيار على عدو وهمي آخر.
وفي السياق، كانت واشنطن وطوال سنوات تحاول أن «توحد الغرب والشرق» ، أي أوروبا وكلاً من روسيا والصين، تحت قيادتها لمواجهة «الخطر» من احتمال إنتاج إيران للقنبلة النووية، إلى أن وصل الأمر إلى الاتفاق الذي عقد قبل عامين، لكن مع ذلك بقي التحريض الإسرائيلي، ثم تجدد بقوة مع التغير الذي حدث في البيت الأبيض بفوز الجمهوري دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، حيث بدأ عهده بتحديد إيران كعدو مستهدف، لدرجة احتمال شن الحرب العسكرية عليها لمنعها من إنتاج القنبلة النووية!
الصلف والعنجهية الأميركية أعمتها عن احتمال وجود عدو حقيقي وقوي، وهي التي ترددت في مواجهة إيران، ليس لأن لديها قوة عسكرية إلى حد ما بحسابات الدول العسكرية العظمي في العالم، بل ربما لأن لديها أتباعاً، يمكنهم أن يلحقوا الأذى بأميركا في أماكن عديدة، ها هي واشنطن تجد نفسها في مواجهة قوة نووية حقيقية، تظهر قدراً كبيراً من شجاعة المواجهة، في وقت فيه واشنطن محكومة من قبل رجل جمهوري مغامر، لكن ما لا بد من قوله: إن التوتر الذي تحدثه واشنطن مع بيونغ يانغ يطرح التساؤل الكبير وهو، لم تتصرف أميركا بالنيابة عن العالم، وكأنها حاكم «عربي» مستبد، لم لا تضع كل الملف الكوري على طاولة الأمم المتحدة، فهناك الصين واليابان وشرق آسيا وحتى روسيا أقرب لكوريا الشمالية من الولايات المتحدة الأميركية التي يبدو أنه آن الأوان لأن يقول لها أحد ما: لست مسؤولة عن العالم، والزمي حدودك الجغرافية والسياسية، وكفاك تدخلاً في شؤون الآخرين.