الرجل الأرمل الحزين قام من على أريكته الممزقة، ذاتَ ليلة، وخطا صوب حائط الغرفة المدهون بلونٍ باهت، وأضاء مصباح الغرفة وتناول قلمَ حبرٍ أسود، وراح يفكِّر.. بعد مرور ثوانٍ عدة رسمَ على الحائط امرأةً وبجانبها رسمً رجلاً، ورسم محيّاً دائرياً مبتسماً، فكان قمرا.
خطا الرجل إلى الوراء عدة خطوات، وبعينيه الحزينتين تأمَّل رسمه. فكَّر للحظات، ثم رسمَ على الحائط مكنسة، تراجع مرة أخرى إلى الوراء، تأمَّل، وفكَّر لثوان معدودة، ثم رفع يسراه وتحدث مع الرسم، فبدأت رسوماته الصغيرة تتمايل، فابتسم، وقال ما أروعكِ حينما كنتِ تكنسين الغرفة بفستانكِ المزركش وأنا أرمي أقماع السجائر على أرضية الغرفة وصراخكِ حينها كان يملأ البيت.
على الحائط كان الرجل ذو الوجه المبتسم يبتسم بحزن، وذكرياته بدأت تحرك عقله، فجلس على أريكته الممزقة وراح يبكي على رحيل امرأة عشقها منذ كانت طفلة.
ذلك الرجل.. الرجل الأرمل.. الرجل الأرمل الحزين تمدد على ظهره واضعا يديه على بطنه، واستغرق في تأمُّل رسمه وهو يبكي، مستأنسا بنور القمر.
وبغتة.. ارتجف الرجل بخوف، وقام ناهضا على صياح ابنته التي دنت منه، وضربت يده معنِّفةً وهي تومئ إلى الحائط، ثم خرجت صائحة بانفعال.
أما الرجل.. الرجل الأرمل.. الرجل الأرمل الذي كان يبكي حزنا فقد راح يُنقِّل نظراته باندهاش بين الحائط وسدّة الحجرة وسأل نفسه، باندهاش ما سبب غضب ابنته إلى هذا الحدّ؟.
رجعت الابنة ممسكةً باسفنجة، وراحت تغسل بها الحائط وتتمتم في ذاتها دون توقّف، وهو يتابع بحزن وألم ما تفعله ابنته الغاضبة برسمه.
أراد الاحتجاج، لكنَّ الكلمات لم تنقذه، ففاضت من عينيه دموع غزيرة، وسالت على خديه المُجعّدين .
وفي دقائق كانت الابنة قد نظفت كلَّ شيء من خلال غرق الاسفنجة بالكاز.. فمسحتْ الرسم، وأطفأت نور القمر. وعاد الحائط باهتا كما كان ..
الابنة وهي تزيل الرسم لم تلاحظ من انفعالها، لم يخطر ببالها البتّة أن ترى ما هو المرسوم على الحائط، لم يُتح لها انفعالها أية فرصةٍ لتلحظ إلى أن الرجل الأرمل ذا السّحنة المبتسمة والخدّين المُجعّدين.. الرجل الأرمل الذي بكى، قبل وقتٍ قصير، ذاك الرجل الذي أزالته بالاسفنجة كان والدها بمعيةِ أُمّها..