الخوف من غزة، وعليها

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في الشهر الماضي، قامت رابطة علماء فلسطين والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع غزة، بإعداد كتيب بعنوان: "من فضائل الأضحية وأحكامها" (الطبعة الثالثة)، وطباعة 20.000 نسخة منه، وبدأت بتوزيعه على المشايخ والدعاة وخطباء المساجد والناس في الأماكن العامة. 
ليس لدينا اعتراض أو تعليق على مضمون الكتيب، فهذا شأن فقهي بحت.. ولكن نتساءل: ما أهمية مثل هذا الكتيب؟ خاصة وأنه سيوزع على مشايخ ودعاة وخطباء مساجد، وهؤلاء درسوا هذه المادة وحفظوها عن ظهر قلب، وهم يعيدون إلقاءها على المصلين كل سنة.. وحتى الناس العاديون يعرفون أن الأضحية سُنّة نبوية، ولها أجرٌ عظيم، خاصة لمن هو قادر عليها.. وكان الأجدر توفير تكاليف الطباعة والنشر والتوزيع، وبدلا منها إقامة مشروع ينفع الناس، أو حتى توزيع قيمتها على المستحقين.. وهي مبالغ طائلة بالمناسبة، ومثل هذا الكتاب هناك عشرات غيره بعناوين مختلفة، وتجري طباعة وتوزيع ملايين النسخ منها حول العالم. 
وهناك موقع على "الفيسبوك" لجماعة تسمي نفسها "واحة الوعظ والإرشاد" ومركزها جنوب غزة، تنشر إعلانات متكررة تحت عنوان: "ماراثون التائبين وقوافل العائدين"، وتدعو الناس لتلبية دعوتها للمشاركة في تلك المهرجانات الضخمة التي تقيمها في الساحات العامة، مثل ساحة السرايا، الجندي المجهول، وغيرها.. طبعا تحت شعار "السباق سراعا إلى الله تعالى"!!
وهناك صور عديدة لمشايخ يحضنون أطفالا، ويكافئونهم على "توبتهم"!!  
السؤال المحير: هؤلاء الأطفال تائبون من ماذا!! متى تسنى لهم اقتراف الذنوب التي تستوجب التوبة؟! وحتى كبار السن، يتوبون من ماذا؟ من الحصار؟ من انقطاع الكهرباء؟ من بيوتهم التي دمرتها الحروب؟ من المعبر المغلق منذ سنين؟ من المياه الملوثة؟ من البطالة والفقر والعوز؟ 
وكانت مجموعة أخرى من هؤلاء المتطرفين اقتحموا عددا من مدارس القطاع الابتدائية، وصوروا فيلما نشروه على "النت" في نيسان الماضي (2016)، يُظهر رجالا بعضهم بالزي الأفغاني، يحيطون بقائدهم وهو يلقي خطبة حماسية ملتهبة، فيما يظهر الطلبة والدموع تنهمر من عيونهم، والخشوع والخوف بادٍ على وجوههم، وبعضهم سقط مغشيا عليه من شدة التأثر.. وسط صيحات التكبير والتهليل!!
والسؤال يثور مرة ثانية: من سمح لتلك الجماعات بنشر أفكارها المتشددة، ونهجها المتطرف؟ ولماذا التركيز على الأطفال؟ ومن أين تأتي هذه الجماعات بكل تلك المصاريف.. ولا نتحدث فقط عن الأولويات، بمعنى أنه بمصاريف مهرجان واحد يمكن حل مشاكل مائة عائلة منكوبة، بل نتحدث أيضا عن الجهات التي تمول وتدفع تلك المصاريف الباهظة.. وما هي أهدافها وأجنداتها؟! 
وقبل أيام انتشرت صورة لمعلمة تحمل سكينا ملطخا باللون الأحمر وتقربه من عنق طفل، وهي تحاكي عملية ذبح خاروف أمام أطفال روضة المستقبل في تل السلطان، وقد دافعت الروضة عما فعلته المعلمة، وأكدت أنها تقوم بهذا النشاط للعام الرابع على التوالي، كما دافع مسؤولو وزارة التربية التابعة لـ"حماس" عن هذا النشاط الدموي.
والسؤال الأخطر: ماذا نتوقع بعد كل تلك الجهود المنهجية والمتواصلة والمصروف عليها بسخاء؟  
في شهادة لأحد الأصدقاء، وقد كتبها على صفحته، ذكر فيها أن مجموعة شبان ملتحين، يبدو واضحا أنهم ينتمون لإحدى الجماعات المتشددة، كانوا قد أعدوا ما يشبه الحاجز على أحد شوارع القطاع، ويقومون بتوقيف مركبات النقل العمومي، ليتأكدوا أن النساء لا يجلسن بجانب السائق، وأن المسافة بين الذكور والإناث كافية في المقاعد الخلفية (لدرء الفتنة). 
هل هذه أولويات شعبنا؟ هل هذه هي مشكلتنا؟ هل هؤلاء المتطرفون قد تم غسل أدمغتهم لدرجة أنهم لم يعودوا يدركون واقع الشعب الذي يعيشون وسطه؟ ولا يدركون ما هي مشاكله، وأولوياته!! أم أنهم يدركون كل ذلك، ولكنهم ماضون في مخطط "دعشنة" غزة، وتحويلها إلى بؤرة فلتان أمني، وساحة فوضى، من خلال الإرهاب والتطرف ونشر الفكر المنغلق المتعصب. 
في الشهر الماضي فجر انتحاري "داعشي" نفسه في حاجز فلسطيني تقيمه "حماس" على حدود رفح، فقتل وجرح فلسطينيين (مسلمين)، بل من حركة إسلامية جهادية.. وهذه الحادثة/ الجريمة لن تكون الأخيرة.
نسمع بين فترة وأخرى عن مقتل شاب فلسطيني من غزة في سورية أو في العراق.. لماذا؟ وكيف يجتاز هؤلاء الحدود ويعبرون البحار والصحارى، ويقطعون المسافات، تاركين أوطانهم وعوائلهم وشعبهم وأعداءهم الحقيقيين، ليفجروا أنفسهم هناك في الرقة والموصل!! وهؤلاء ليسوا حالات فردية؛ إنها ظاهرة آخذة بالازدياد. 
كيف انتشر التطرف في غزة؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ أعتقد أن الجميع يعرف الإجابة.
المساجد التي حولتها "حماس" إلى مقار حزبية، وعشرات الجمعيات التي تعمل تحت اسم جمعيات خيرية، أو لجان الزكاة، أو دور أيتام، أو مراكز تحفيظ القرآن الكريم.. مثل جمعية ابن باز، ومعهد ابن تيمية، ومجلس الدعوة السفلية، وجمعية أهل السنة، وغيرها، وهي مراكز تتبع إما السعودية أو قطر أو الإمارات، وهي دول بينها مشاكل وصراعات سياسية، لكنها تتفق فيما بينها على نشر الفكر الوهابي، والقيم المتزمتة، وعلى التعامل مع غزة بوصفها حقل تجارب، وورقة ضغط ومساومة، وموطئ قدم... تستغلها، وتستغل أهلها ومعاناتهم ودمهم ومستقبلهم لتسويق مشاريعها السياسية، وتقوية نفوذها السياسي في المنطقة.. كما فعلت ذلك من قبل سورية وإيران.. ولكن بأسلوب وسياقات مختلفة. 
ماذا يريد تجار الدين من غزة؟ وكيف يخدمون المخطط الصهيوني؟ الإجابة باختصار: يريدون تكريس الانقسام، وإقامة إمارة دينية، تشبه ولاية الرقة، لهدف إسرائيلي مركزي: نزع الصفة الوطنية عن كفاح الشعب الفلسطيني، وجعله مقترنا بما يسمى "الإرهاب الإسلامي"، وتثبيت تهمة الإرهاب بفصائل المقاومة، وجعلها صنوا لإرهاب الجماعات الأصولية، وبالتالي تقديم إسرائيل وكأنها تخوض حربا عادلة ضد الإرهاب. 
الخدمة الثانية، تأجيج النزاع الطائفي، وتحويل الصراع العربي الصهيوني إلى الصراع السني الشيعي، وجعل إيران العدو المركزي للأمة العربية بدلا من إسرائيل. 
وإذا ما استفحلت هذه الجماعات، لن يعود الهدف المركزي للشعب الفلسطيني التحرير والعودة.. لأن أهدافاً أخرى ستغدو أكثر أهمية: الحجاب، ومنع الاختلاط، خاصة في الباصات، وحظر الأرجيلة، ونشر "الفضيلة" و"الأخلاق" التي نسيها أهل غزة، وصاروا بحاجة لمن يعلمهم إياها!!