جراحة زراعة البلادة!

توفيق أبو شومر.jpg
حجم الخط

هل نجحت أكبر وأخطر عملية جراحية في تاريخ البشرية، يقوم بها أطباءُ الألفية الثالثة، على البشر ِكلِّهم، زراعة جينات البلادة، في جينات الشعوب؟
إنها عملية جراحية بلا أدواتٍ طبية تقليدية، تُجرَى بقفازات رقمية، ومقصات، من إنتاج مصانع السوفت وير، وحُقنٍ، من صناعة صاغة شبكات التواصل الاجتماعية، يؤديها أطباء مأجورون في مستشفيات أباطرة رؤوس الأموال، هذه العملية الخطيرة تبدأ بجراحة استئصال العواطف، والأحاسيس الشفيفة الرهيفة من البشر، ثم، تليها عملية إزالة بقايا الفضائل الأخلاقية! إن الاستعدادات الهائلة لإتمام هذه الجراحة على البشر قائمةٌ على قدمٍ وساق.
مهَّد جراحو الألفية غرفة العمليات منذ زمن، وجهزوا البشرية للعملية، بعد أن قاموا بحقن البشرية بخلايا جينات (البلادة)، وأجروا غسيلا شاملا لبقايا التراث العاطفي القديم، محوا الفنونَ الجميلة، واستبدلوها  بالسخافات، أقصوا الآداب الجميلة الخالدة عن موائد الأجيال، غيروا التربية والتعليم، من تربية خلقية، وتثقيف، وتوعية، إلى غاية جديدة وهي نَيْل شهاداتٍ لغرض الحصول على وظيفة، وطاردوا بقايا المبدعين، وفرضوا عليهم (الحَجْرَ العقلي)، وأقصوا مؤلفات الثقافة، وجعلوها سلعة غالية الثمن، واستبعدوا المفكرين الواعين عن كل قطاعات المجتمع.
لم يكتفِ جراحو الألفية بذلك، بل شوَّهوا الحياة، وأسدلوا الستائر على بقايا القيم والأخلاق، واغتالوا من النفوس أجمل الصفات؛ فجعلوا الرذائل فضائل، فالمتسلقون المتملقون مُقدمون على ذوي الخلق، والعتاة الجبابرة مُفضَّلون على أهل العواطف النبيلة.
ها هي عائلاتٌ كاملة، كبارُها، وصغارُها يتحلَّقونَ حول شاشات العرض الرقمية، (يستمتعون)!! بصور القتل، والحرق، والشنق، وصور الجثث المملوءة بالدماء، مقطوعة الرؤوس، وفيديوهات المراكب الشرعية التي تحمل المهجَّرين وهي تغرق، وتنتشر جُثثُهم في البحر، كذلك أفلام المقابر الجماعية التي اكتشفت لمئات المقتولين من الأطفال، كلَّ هذه المناظر لم تعد تُحركُ في (ضحايا الألفية)! أية عاطفة، فهم يقضمون المسليات، ويرشفون العصائر، ويلحسون المرطبات من إنتاج منظمة التجارة العالمية، ولا يظهر عليهم الانزعاج والقلق، فمنتجات الألفية من الدعايات، وأدوات السهرات أزالتْ آخر سلالات العواطف والانفعالات.
نجحت فضائيات الألفية في تدريب المشاهدين على هذا الكوكتيل الغريب، فصار مستساغا أن تعرضَ على شاشاتها مناظرَ الرعب، والقتل، والدم، والغرق، وفي الوقت نفسه، تعرض دعاياتٍ للمسليات والمغريات، وتبثُّ برامج تفسير الأحلام، وإشاعة الفتاوى الغريبة، ولا تنسى هذه الفضائيات أن تبثَّ صوت الأذان في أوقات الصلاة، كنوعٍ من التقيَّة!!
هل كان الشاعرُ المتنبي يتنبأ بعصرنا حين وصفَ الناسَ في عصره؟:

أرانبُ، غير أنهمُ ملوكٌ
مُفتَّحةٌ عيونُهم نيامُ
بأجسامٍ يُحرُّ القتلُ فيها
وما أقرانُها إلا الطعامُ

لا جدال في أن الحياة تحتاج إلى النقائض حتى تستمرَّ، غير أنَّ ما يجري اليوم يختلف عن سنن الحياة المتعددة، فما يجري لا يهدف لإغناء الحياة بشقيها، التراجيدي، والكوميدي، وإنما يهدف لاستئصال العواطف البشرية النبيلة، واستبدالها بمنتجات آلية جديدة، ليتحول البشر في آخر المطاف، إلى كائناتٍ آلية وظيفية!