الفساد هو الفساد. وسواء كان عند الضحية في فلسطين، أو عند الجلاد في إسرائيل. ويتحدد مستقبل ضحايا هذا الفساد، ومستقبل مجتمعهم بكامله، استنادا إلى طريقة معالجة هذا الخلل، وليس على مدى انتشاره وتفشّيه، وعلو شأن المبتلين به، رغم أهمية ذلك.
لعنة الفساد بكل أنواعه ومواضيعه، من مالية وإدارية وأخلاقية وسياسية، منتشرة ومرافقة للمجتمعات البشرية كافة منذ بدء الخليقة. لكن معالجة هذه الآفة تختلف من مجتمع لمجتمع. وخطورتها في مرحلة النشوء والتأسيس مدمرة تماما. وهي في مرحلة ما بعد النشوء، تشكل الإشارة الأوضح على بدء مرحلة الانهيار والضياع وصولا إلى التلاشي الكامل، ما لم تكن المعالجة فعّالة وحاسمة.
من هنا تنبع أهمية معالجة قضايا الفساد وموبقاته، وفي اللحظات الأولى لظهوره وانكشافه، وقبل تحوله إلى وباء منتشر وعام.
هذه حقائق بديهية معروفة. لكن وضعها في مقدمة مقال يعرض ويعالج ويشرح ويوضح قضايا الفساد في إسرائيل، أمر ضروري لتبيان الحقيقة من جهة، ولمنع بلوغ استنتاجات خاطئة، ولمنع الاعتقاد بأن الجميع سواسية، و»عندهم» مثل ما «عندنا» من فساد… و»كفى الله المؤمنين شر القتال»، أو قل النضال وبذل الجهود.
إسرائيل غارقة منذ أشهر، ومنذ أسابيع عديدة بشكل أكثر بكثير، في متابعة ما تكشفه أجهزة الشرطة والتحقيق فيها، وتنشره وسائل الإعلام هناك على رؤوس الأشهاد، وبعناوين فاقعة، وتضيّق حلقة حِبال التحقيق حول رقاب المتهمين الذين يتربّع غالبيتهم في الصفوف الأمامية للسلطة والمجتمع الإسرائيلي، وأولهم وأبرزهم، هذه الأيام رئيس الحكومة الإسرائيلية ذاته، بنيامين نتنياهو.
على أن التحقيق مع نتنياهو (وزوجته سارة، وابنهما يائير، وابن عمه ومحاميه وموفده للمهمات الأكثر دقة وسرية، دان شمرون)، والإعداد إلى توجيه الاتهامات له رسميا في المحاكم الإسرائيلية، وبرغم الأهمية القصوى للموقع الذي يحتله في هذه المرحلة، ليس هو أكثر ما يصيب إسرائيليين بالصدمة.
ذلك أن ركائز وأركان «قدس الأقداس» في إسرائيل، وهو الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن هناك، تهتز بقوة هذه الأيام، حيث يتعرض جيشهم وأجهزة أمنهم، من خلال العديد من كبار القادة والجنرالات، للاستدعاء للتحقيق في مراكز الشرطة، وتوجيه الاتهامات لهم، وإبقائهم لأيام ولأسابيع أحيانا، قيد الاعتقال والتضييق على تحركاتهم وحرية تنقلاتهم، ومنع اتصالهم مع متهمين آخرين، وتواصل التحقيقات معهم.
كنت قبل شهر قد خصصت مقالا حول قضايا الفساد العديدة قيد التحقيق في إسرائيل ولكن التطورات الجديدة على واحدة من هذه القضايا، وهي قضية عقد شراء الغواصات من المانيا، على مدى الأيام العشرة الأخيرة، تستدعي العودة إلى هذه القضية بالذات، دون أن يعني الأمر انتقاصا من خطورة القضايا الأخرى التي تخضع للتحقيق، وتجعل من إمكانية عزل نتنياهو عن سدة الحكم أمرا متوقعا ومحتملا مع تقديم أول لائحة اتهام رسمية له إلى المحكمة، بتهم الارتشاء وسوء الائتمان وغيرها من التهم.
جديد هذه الأيام في قضية الغواصات من المانيا، نتيجة ما يقدمه المتهم ميكي غنور، بعد أن تحول، باتفاق مع الشرطة، إلى «شاهد ملك»، مقابل المطالبة بسجنه لمدة سنة واحدة فقط، وتغريمه 10 ملايين شيكل (حوالي ثلاثة ملايين دولار)، هو التوسع في دائرة الاعتقالات والتحقيقات، على النحو التالي:
ـ تجدد التحقيق مع افريئيل بار يوسف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي، ومدير لجنة الخارجية والأمن في الكنيست (البرلمان) سابقا.
ـ التحقيق مع اليعيزر (تشيني) مَروم، قائد سلاح البحرية السابق، بتهمة تسلمه راتبا مقطوعا بشكل متواصل من مروم، مقابل ما يعتقد أنه اشتراطه على شركة تيسنكروب الالمانية لبناء الغواصات لعزل مندوبها السابق في إسرائيل، وتعيين مروم بدلا منه. ويخضع الآن لقرار تقييد حركته.
ـ اعتقال دافيد شاران، رئيس مكتب نتنياهو سابقا، يوم الاحد الماضي، بتهمة أخذ رشاوى نقدية من غنور، مقابل المساعدة على دعم مصالحه.
ـ اعتقال المستشارين الاستراتيجيين، ناتي مور وتساحي ليفر، والتحقيق معهما في قضية توقيع اتفاقيات وهمية مع غنور، وتشكيلهما لجنة توصيل أموال الرشاوى إلى شاران.
ـ اعتقال شاي بْروش، القائد السابق للفرقة 13 الذائعة الصيت في البحرية الإسرائيلية، في مطلع الاسبوع، والتحقيق معه بتهمة الرشوة وسوء الائتمان.
ـ اعتقال رامي طييف، المستشار السياسي لوزير الطاقة، يوفال شطاينتس، والتحقيق معه بتهم الرشوة والتوسط لرشوة وتبييض أموال، وعرقلة التحقيق في قضايا جنائية.
ـ اعتقال مودي زندبرغ، وزير العلوم والتكنولوجيا السابق، بتهم الارتشاء والتوسط لرشاوى والغش وسوء الائتمان.
ـ التحقيق مجددا مع دافيد شمرون، ابن عم نتنياهو ومحاميه الشخصي ومبعوثه الخاص في المهمات الحساسة والأكثر سرية وخطورة. وهو في الوقت نفسه محامي ميكي غانور، الذي أصبح «شاهد ملك» في هذه القضية الجنائية المتشعبة. وحسب أقوال غانور فإن شركة تيسنكروب الالمانية وعدته بعمولة قدرها عشرة ملايين دولار، في حالة تم توقيع صفقة الغواصات مع إسرائيل. وقال غانور للمحققين إنه وافق توكيله كمحام عنه، ووافق على العمولة العالية له، بسبب «علاقات» شمرون. كما أشار غانور إلى أن شمرون أكد له أن إسرائيل ستوقع صفقة الغواصات مع شركة تيسنكروب. هذا في حين أن المحاميين اللذين وكّلهما المحامي شمرون يقولان إن المبالغ التي يتحدث عنها غانور، هي مقابل اتعاب مُوكِّلهما.
ـ إضافة إلى التحقيق مع هذا الحشد من كبار مساعدي نتنياهو وأعضاء دائرته الأقرب، فقد استدعت الشرطة الإسرائيلية حتى الآن، عددا من المستشارين السياسيين، ومسؤولين كبارا للإدلاء بشهاداتهم، وليس للتحقيق معهم، وأبرز هؤلاء وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشي (بوغي) يعلون، الذي تطرق في شهادته إلى «تدخلات» نتنياهو في صفقة شراء الغواصات.
في السياق ذاته، ذكرت جريدة «يديعوت احرونوت» أن المناقصة الأصلية لشراء القطع البحرية التي يفترض أن تتولى حماية منصات الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسط، والقريبة من جزيرة قبرص، أُعدت في الأساس لثلاث شركات من كوريا الجنوبية، إلا أن المناقصة الغيت، وتم التعاقد في مقابل ذلك مع شركة تيسنكروب الالمانية.
جبل من الجليد، ما طفى منه إلا القليل. وما زال التحقيق مستمرا، وعلامات كثيرة تشير إلى جهود تبذلها أجهزة التحقيق الإسرائيلية لتضييق الحلقات وكشف المستورات الكثيرة في مجمل قضايا الفساد بكل أنواعه وأشكاله وأحجامه، والتي يشكل نتنياهو المركز الأهم للعديد من دوائرها.
لا أمِلّ من التكرار: الفساد وباء منتشر في الغالب الأعم من الدول والمجتمعات. وما يحدد سلامة جسم المجتمع والدولة، وما يضمن مستقبل المجتمع والدولة، هو طريقة معالجة هذا الوباء، ومدى الجدية والحزم والحسم فيه.
عن القدس العربي