دخلت قاموسنا القضائي تهمة اطالة اللسان، ويبدو أنها تغليف جديد لتهمة التطاول على المقامات العليا، وسواء كانت كذلك أم ان قوامها مغاير عنها، فما يثير التساؤل هو كيف يمكن لنا أن نحدد المقامات العليا كي نبتعد عنها ولا نؤرق نومها بكلام لم يعد يجدي نفعاً، وهل تقتصر القامة العليا على سيد البيت أم يندرج في تفسيرها الوزير والوكيل والمدير العام إلى أخر القائمة المسميات الوازنة، سيما وأن لدينا الكثير منها عملاً بالقول "كبر الكوم ولا شماتة العدا"، وماذا عن الرتبة العسكرية التي تدخل بصاحبها صالون المقامات العليا؟، وماذا عن مختار العائلة هل يمكن للنائب العام أن يشمله في القائمة وهو يعد لائحة الاتهام بحق من تطاول عليه كي يسهل على نفسه تكييف القضية، وكيف يكون الحال بنا إذا وجهت الزوجة تهمة التطاول على مقامها العالي ضد زوجها؟، هل يمكن للمحكمة أن تسقط القضية بدعوى عدم اكتمال الأدلة والشهود؟.
وكون تهمة اطالة اللسان دخلت من الباب الخلفي لردهة القضاء، فمن حق المواطن أن يطلع على تعريف دقيق لها كي لا ينزلق بلسانه إلى ما لا تحمد عقباه، فهو بحاجة إلى أن يعرف الطول المسموح به للسانه كي يعمل على تقليمه بين الفينة والأخرى ليبقيه ضمن المقبول به، ولسنا هنا في مقام التذكير بما جاء في القانون الأساسي وبالتحديد مادته "19" التي تكفل للمواطن حرية الرأي والتعبير بالقول أو الكتابة، ولن نعرج على التقارير التي تشير إلى التراجع الكبير في حرية الرأي لدينا تماشياً مع الادعاء بأن المؤسسات القائمة عليها ضمن أدوات المؤامرة على القضية الفلسطينية، لكن أليس الأجدر بنا أن نفرق بين نقد الأداء والعمل ذات الشأن العام الذي تكفله أبسط القيم المتعلقة بحقوق المواطن وحريته في التعبير عن رأيه فيها، وبين القدح والتجريح الذي يتجاوز صاحبه العام المسموح به إلى الخاص المحظور عليه، على قاعدة أن السب والقذف والتشهير جنحة يعاقب عليها القانون بتدرجاته من الغرامة المالية إلى الحبس إلى الحبس والغرامة معا، لكن القانون كما يمنح أصحاب المقامات العليا الحق بملاحقة المواطن قضائياً بهذه التهمة يمنحه للمواطن ايضاً بذات القدر في ملاحقة أصحاب المقامات العليا إن هي تعدت عليه سباً او قدحاً أ تشهيراً.
لا شك أننا بحاجة لإنفاذ القانون فيما يتعلق بجنحة السب والقذف والتشهير سيما في ظل رحابة الفضاء الالكتروني وغياب الضوابط فيه، والذي من شأنه أن يكون له تداعياته السلبية على النسيج المجتمعي، لكن في الوقت ذاته يجب ألا نجعل من ذلك جسراً نعبر عليه لتكميم الأفواه وتضييق الخناق على حرية الرأي وكبت الحريات، ولا بد لنا من الحفاظ على المساحة الفاصلة بين النقد المتعلق بالعمل العام وبين التطاول ببعده الشخصي.
نعم نحن لسنا دولة، ولسنا سلطة متكاملة الأركان، والاحتلال ما زال يجثم فوق صدورنا ويتغول علينا في تفاصيل حياتنا، لكن كل ذلك يجب ألا يكون مبرراً لترهل القانون لدينا تارة والتغول عليه من أصحاب النفوذ تارة أخرى، حيث أن اطمئنان المواطن لسلطة القانون تعزز لديه قيمة الدفاع عن الوطن الذي ينتمي اليه، الوطن الذي لا يشعر فيه المواطن بحريته وكرامته وأن الجميع فيه سواسية أمام القانون يصبح وطناً منفراً لا تصلح الخطب العصماء في مداواة جرحه.