لم يكن من المفاجئ أن يدعو رئيس حركة النهضة التونسية إلى منح الثقة للتعديلات الوزارية التي أجراها رئيس الحكومة يوسف الشاهد والتي أطاحت بنصف الحكومة، رغم أن هذا الأخير لم يتشاور مطوّلاّ مع حركة النهضة إزاء هذه التعديلات، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أشار إلى دعوته لمنح الثقة للتعديلات تعود إلى أن الموقف يتحدد من الحكومة والنظام وليس للأشخاص والأفراد، إلاّ أن هذا التبرير لا يقنع أحداً، ذلك أن الفترة الأخيرة شهدت العديد من الخلافات الحادة بين المكونين الرئيسين للحكومة، حركة نداء تونس وحركة النهضة، كان من ابرزها الإعلان المفاجئ للرئيس السبسي من أنه أخطأ في تقييم حركة النهضة، إذ إنه اعتقد أنها من الممكن أن تصبح شريكاً في دولة مدنية بينما ظلت في الواقع في اطار الإسلام السياسي ولم تتمكن من الاندماج في مشروع الدولة المدنية، وجاء هذا التقييم الأخير من قبل السبسي إثر مقترحاته المتعلقة بالمساواة بالميراث بين الرجل والمرأة والسماح للمرأة التونسية المسلمة بالزواج من غير المسلم، في وقت عاودت حركة النهضة لتدعو إلى إعادة نظام الأوقاف والتخلي عن مجانية التعليم.
ورغم أن التعديل الوزاري جاء للتهرب من إقالة الحكومة، باعتبار أن التعديل من صلاحيات رئيس الحكومة، لكن إقالة الحكومة، وفقاً للدستور، يتطلب تكليفا رئاسيا جديدا، إلاّ أن لجوء الشاهد إلى التعديل كان بطبيعة الحال بالتنسيق الكامل مع الرئيس السبسي، لذلك فإن موافقة «النهضة» على التعديلات الوزارية، جاءت تهرباً من صدام مع الرئيس أكثر من قناعة بشخوص التعديلات، بل ان بعض وسائل الإعلام التونسية اعتبرت دعوة النهضة لإقرار التعديلات، إقراراً بتراجع المشاركة نسبياً في الائتلاف الحكومي، ضعف هذه الشراكة يرتبط بما هو أوسع من الساحة الداخلية التونسية، ذلك أن البعض يربط ذلك، بتراجع نفوذ الإسلام السياسي في المنطقة عموماً، وأن ما تشهده تونس في الاطار السياسي، بين حركتي نداء تونس والنهضة، ما هو إلاّ ترجمة للمعطيات العربية والإقليمية، في اطار تقليم أظافر الإسلام السياسي، بعد عدم الوثوق بعمليات المراجعة وتعديلات البرامج التي أجرتها بعض أحزاب وقوى الإسلام السياسي، خاصة تلك المراجعة التي أجرتها حركة النهضة وتبين من خلال العودة للدعوة إلى إعادة نظام الاحباس ـ الأوقاف، والدعوة إلى التخلي عن مجانية التعليم، والتي عبرت عن رغبة الإسلام السياسي في استغلال الجهل لصالح تسويق أفكار لا يمكن لها أن تقنع المتعلمين من الشعب التونسي.
وقد يبدو قرار التعديلات الحكومية، محاولة لإصلاح الفشل في الميدان الاقتصادي، وهذا صحيح، لكن ليس كله، إذ أن هذه التعديلات في اطار منهج جديد اتخذه الرئيس السبسي للتعامل مع معطيات جديدة، داخلية وإقليمية من ناحية، وبالتوازي مع عملية مراجعة إزاء مدى الثقة بالاطروحات الجديدة تحت شعار عملية مراجعة من قبل حركة النهضة إثر مؤتمرها الأخير قبل عامين، بعد أن تبين أن مثل هذه المراجعة ما هي إلاّ محاولة للالتفاف على معطيات مستجدة، داخلياً من خلال ما أظهرته انتخابات تشرين الثاني 2014 من تراجع شعبية حركة النهضة، وخارجياً مع تقلص نفوذ قوى الإسلام السياسي في المحيطين العربي والإقليمي، مراجعة لاحتواء المستجدات والتعامل معها أكثر منها قناعة راسخة بما أقدمت عليه من مواقف ومبادئ، وهو الأمر الذي توصل إليه الرئيس السبسي من خلال إقدامه بدوره على عملية مراجعة أشار فيها إلى فشل نداء تونس في جلب حركة النهضة إلى خانة مدنية الدولة، خاصة بعد دعوة هذه الأخيرة إلى العودة إلى نظام الأوقاف وإلغاء مجانية التعليم، كبرهان على أنه من الصعب في ظل التكوين الأيديولوجي للإسلام السياسي التخلي عن جوهر اطروحاته ومرجعياته الدينية، بصرف النظر عن الشعارات المتعلقة بعملية مراجعة، ويبدو أن إطلاق مقترحات السبسي ذات الأبعاد المدنية، هي التي استفزت الجوهر النائم للمرجعيات الدينية لحركة النهضة، وأعلنت عن دعواتها المشار إليها، ما كشف مدى الثقة بقدرة هذه الجماعات على الوفاء بالتزاماتها المرجعية الجديدة، لكن وايضاً دلّلت على أن إخفاء الجوهر الحقيقي لهذه المرجعيات لم يكن ممكناً لوقت طويل.
وبعد اختيار التعديلات الحكومية، هناك استحقاق الانتخابات المحلية، إذ رغم الدعوة إلى تأجيلها، إلاّ أنها، أيضاً، ستكشف مدى قوة كل حزب بالشارع التونسي، في حين أن مراجعة السبسي على «مراجعة» النهضة، تضع مدى صدق الوثائق والمراجعات والبرامج الجديدة الصادرة عن مختلف قوى الإسلام السياسي، على المحك، الدرس التونسي، يتجاوز حدود الدولة التونسية إلى عموم المنطقة وإسلامها السياسي!