الكاتب: عيسى قراقع
عندما تكون اقدامك على الارض وتتحرك ، تكتشف ان يوجد هنا شعب يجترح الاساطير والمعجزات والمواقف، يتركها في الحياة وما بعد الموت، ولهذا يكون للدم الفلسطيني معنى ، وللتضحية دلائل وأبعد من رؤية السياسيين وأعمق مما يكتبه الآن المثقفون.
الشهيد الاسير الشاب الجميل رائد الصالحي ابن مخيم الدهيشة والذي سقط شهيدا يوم 3/9/2017 بعد اعتقاله مصابا برصاص جنود الاحتلال، قام قبل استشهاده بعدة ايام بتوزيع المبالغ المالية التي جمعها في حواشته (حصالته) على عائلات الاسرى في المخيم ، وهو الفقير الذي رحل ببؤسه ودمه بعد ان تفقدنا من الوريد الى الوريد حتى فقدناه .
في مخيم الدهيشة الحجر لايخطيء، وجنود الاحتلال لا يسيطرون على ليل المخيم، وعلى عتباته وفي ازقته تجري المواجهات ليلا، شبان مستيقظون ، جاهزون ، مختلفون متمردون ساخطون غاضبون لا يقبلون الاستباحة ولا المذلة، جيل آخر يعيش ويحيا بالكرامة وليس بالخبز والاعاشة فقط، لا يقبل الخنوع.
في مخيم الدهيشة ارتكبت سلطات الاحتلال جرائم اعدام ميداني باطلاق وابل من الرصاص الحي على الشبان ، ولم يكن هؤلاء الشبان يشكلون خطرا على حياة الجنود، انها تصفيات متعمدة وممنهجة، الدم يفور ويرفرف في هواء المخيم ، جثث اولاد تعلقت على حيطان السناسل وفوق سطوح البيوت، جنود الاحتلال خائفون مرتعبون يضغطون على الزناد بسهولة على كل خيال وشبح يظهر في ليل المخيم.
الشهيد رائد الصالحي ارتكبت بحقه جريمة حرب واضحة عندما فتح الجنود جبهة قتال على جسده، ثماني رصاصات تمزق جسمه في ساحة البيت، ويترك لأكثر من ساعة ونصف ينزف الدماء قبل نقله الى المستشفى، شاهدنا الارض منقوعة بالدم، وجهه معفر بالتراب وفي قبضته الحجر الاخير.
احتجزت سلطات الاحتلال جثمانه ستة ايام ، عاد من ثلاجة الموتى محمولا على اكتاف المشيعين والمندهشين والساخطين والفقراء، كان هناك مع 9 شهداء آخرين لازالوا مأسورين في الموت البارد، وكان هناك شاهدا على استمرار احتجاز 249 شهيدا في ما يسمى مقابر الارقام العسكرية، وكان عرسا وولادة واستعدادا للاشتباك القادم.
الشهيد رائد وزع ما جمعه في حواشته الصغيرة على عائلات المعتقلين، هل كان وداعا يعرفه ولا نعرفه؟ هل وزع روحه ودمه علينا لنسقي ما تبقى من ورد وقيم وثقافة في حياتنا ؟ كان يقول لا تنسوا الاسرى القابعين في السجون، اسألوا عنهم، اذكروهم ، اعملوا شيئا لوقف سياسة الاعتقالات الجماعية التعسفية وانتهاك كرامة وحقوق ابنائنا الاسرى، وزع كل شيء وغادر فجأة لنكتشف انه قبل قليل كان بيننا.
هناك في جنوب لبنان وعلى نهر الليطاني وتحت قلعة شقيف وفي مرجعيون بلدة المناضلة الاسيرة سهى بشارة، زرعنا شجرة زيتون وفاءا لروح الشهيد الصالحي وشهداء فلسطين ، كان سلاما دافئا من ارض المقاومة، ومن بلد علي ابو طوق وغسان كنفاني ، من الناس في مخيمات شاتيلا وعين الحلوة وبرج البراجنة ، سلام من الشهداء الى الشهداء.
الشهيد الصالحي لم يبق في حواشته شيء، نزف كل دمه احمر أحمر غطى هذا الكون، وبأم عيني رأيت منامته على عتبة الدار، ملابسه وكوفيته وحذائه ، بيت صغير بائس لا تصدق أنه بيت، لم يفكر بعمارة شاهقة ، لم يفكر بسفر الى بلد جميل وبحر ممتد ونسائم دون غبار و خوف، ينام بملابسه ، ينام صاحيا، قلبه دليله ، يسمع تحركات الجنود المسلحين المتسللين فينهض قبل ان يقبض عليه الليل.
الشهيد الصالحي كان حارسا للزمن الماضي والحاضر والزمن القادم في الغد، ذاكرة جيل لا يحفظ سوى اسماء قراه المدمّرة، يولد موجوعا بنكباته وأحزانه وينتشر في الطرق الوعرة يبحث عن حياته التي احتجزها المحتلون في المقبرة او في السجن او تحت انقاض ذلك البيت.
في الجنوب اللبناني ، هناك شجرة زيتون خضراء، يسقيها الليطاني والدم الفائض في الارض، فعلى كل من يصل هناك ان ينظر الى الاعلى حيث تقف قلعة الفدائيين مطلة على القدس والساحل ويسقى الشجرة بما تيسر له من ماء ودم وآيات ونبع من القلب.
الشهيد الصالحي مازال ينهض في ركام البيت، لا هرمت ملامحه ، ولا سقطت يداه على كمد، مازال مكتملا وقد نقصوا ، وممتلئا وقد فرغت ذخائرهم، ودارت دورة الارض بين يديه ، تشرئب له الرقاب من الجبين الى الجبين الى الابد.