عاد مصطلح "المصالحة الفلسطينية" إلى الواجهة بقوة، بعد أشهر من السبات العميق، في ظل زيارة وفد "حماس" إلى القاهرة، ومطالبة القاهرة بضرورة التحرك الفلسطيني العاجل لإنجازها.
المصالحة هي كلمة السر الأكثر أهميةً في مواجهة جملة الضغوط التي تتعرض لها الأطراف الفلسطينية في كل مكان وزمان. عندما تشتد الضغوط تُستخدم المصالحة للحد من آثار هذه الضغوط.
في قطاع غزة الوضع الكارثي هو الأسوأ هذه الأيام، ولم يعد المواطن الفلسطيني المحاصر من أطراف عدة قادراً على مواصلة صمته وإخفاء قهره من الأوضاع المزرية.
الحصار الإسرائيلي الخانق، وشل حركة التحرك نحو الخارج، ومرض الكهرباء العُضال، ومياه الشرب الملوّثة، حتى شاطئ البحر المتنفَّس الوحيد المتبقي للمواطن أصبح مسمَّماً وملوَّثاً بكميات هائلة من مياه الصرف الصحي. وإجراءات السلطة سواء بالتقاعد أو الطلب من "حماس" بتحمل مسؤولياتها كجهة مسيطرة على القطاع، وفشل "حماس" في تحسين الأوضاع ولو بالحدّ الأدنى المقبول، عادت الحركة المسيطرة على القطاع لاستخدام كلمة السر المعهودة "المصالحة" موضحةً أنها مستعدة للحوار من أجل الوصول الى اتفاق.
الفصائل الصغيرة أو تلك التي لم تعد تمثل الا قياداتها من العجائز وهي كثيرة، أعلنت بسرعة موافقتها على لمّ الشمل من جديد في القاهرة. حركة فتح لم تُظهر موقفاً واضحاً على قاعدة أن ما سيكون ليس أكثر مما كان.. ورغم ذلك فإن "دينمو" المصالحة في "فتح" عزام الأحمد لم يتردد في التوجه إلى القاهرة.. وربما يعلم في عمق ذاته أن الأمور ستظل تدور في حلقة مفرغة.
"حماس" التي تقف اليوم على مفترق طرق تبحث حقيقةً عن منقذ في ظل ضعف المحرك والرافع السياسي لها في المنطقة دولة قطر.. ولا شك أن الأزمة الخليجية جزءٌ منها يتعلق بالإخوان المسلمين، وبالتالي فإنها تؤثر سلبياً على "حماس". وأيضاً، التوجه بقوة نحو إيران ليس خياراً مثمراً للحركة كما كان في السابق .. لأن هذا التوجه يحمل في طيّاته مخاطرَ كبيرةً على رأسها أن الحركة لا تريد مزيداً من التعقيدات في علاقاتها العربية، وخاصةً المنظومة الخليجية، إضافة إلى مصر.
المنقذ مهما كانت صفته، دولةً أو شخصاً أو منظومة يساهم في تخفيف الحصار من جهة، وفي تحمل الأعباء المالية الثقيلة لمواصلة حكم قطاع غزة، وتحسين الأوضاع المعيشية بحدها الأدنى، وبإيجاد حلول مؤقتة لمشاكل مثل البطالة والبنى التحتية مرحب بها وهي صديق اللحظة الصعبة .. ولا غرابة في ذلك عندما أعلنت "حماس" المصالحة والتحالف مع دحلان، ثم الاتفاق مع القاهرة على تغيير اللعبة على الحدود وخاصة في مناطق الأنفاق.
ورغم ذلك تظل المصالحة الرهان الأكبر للحركة، فهي من خلالها تكسب مزيداً من الوقت، لعلّ الأمور تتحسّن.
وفي ظل المتغيرات الإقليمية، فإن القضية الفلسطينية الفاقدة للمصالحة أصبحت في مهبِّ رياح التغيير التي تبدو سلبياتها مرعبة.
المتغيرات الإقليمية تصبُّ بشكل واضح لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي، فالضغوط الممارسة عليها لم تعد ذات قيمة، واليمين الإسرائيلي لديه فرصة ذهبية في تغيير أصول اللعبة السياسية المتواصلة منذ العام 1967، بحيث أصبح مفهوم التهجير والطرد للفلسطينيين شائعاً في أوساط قيادية وليست هامشية في الحكومة الإسرائيلية أو الأحزاب الإسرائيلية، ونكون أغبياء إذا لم نشاهد هذه التحولات.
ولم تعد دولة الاحتلال الإسرائيلي عند كثير من الأنظمة العربية "عدواً" وهناك اتصالات سرية متواصلة وربما أكثر أهمية من الاتصالات العلنية.. ومن السهل على أنظمة عربية التضحية بالقضية الفلسطينية أو إيجاد حلول مشوهة وقاصرة في سبيل الحفاظ على مصالحها.
وبالتالي فإن إعادة ترديد مصطلح المصالحة كأسطوانة مشروخة .. هو مضيعة للوقت، وربما فيه إفساح مجال للمتربصين بالقضية الفلسطينية لتحقيق أهدافهم بسهولة.
إن لم تكن المصالحة استراتيجيةً أساسية وإيماناً راسخاً بأنها حاجة أساسية وأولوية مطلقة وايمان راسخ بأن انجازها بشكل حقيقي قادر على إفشال مشروع التصفية، فإن قياداتنا وأحزابنا تكون قد أجرمت بحق الشعب الفلسطيني.
نحن بحاجة إلى مصالحة وطنية يصبح فيها الرقم الفلسطيني صعباً بشكل حقيقي.. والقيادة الفلسطينية قادرة على التصدي للضغوط مهما كانت شديدة أو مهما كان مصدرها إقليمياً أو خارجياً.
المصالحة تعني فلسطين أولاً وثانياً وثالثاً.. وليس مصالح أفراد وأحزاب وحركات سياسية لم نجنِ من اقتتالها إلاّ الدمار والخراب وضياع ما تبقّى من قضيتنا الوطنية العادلة.