الحراك الذي شهدته القاهرة منذ الأسبوع الماضي، وبداية هذا الأسبوع استحوذ على اهتمام وسائل إعلام فلسطينية وعربية، كما على المحللين والمراقبين، وقادة الفصائل، أجازف بالقول إن الغائب عن هذا الاهتمام هو المواطن الفلسطيني الذي فقد الثقة بفصائله وقياداته، ووقع أكثر من مرة ضحية خيبات الأمل.
المحزن في الأمر أن يكون هذا التجاهل من قبل المواطن الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة نابعا من تراجع الاهتمام بالقضايا الوطنية، بعد أن نال الانقسام والحصار من أبسط حاجاته المعيشية.
الأجواء من القاهرة، أنعشت آمال وتطلعات الكثيرين، الذين بالغوا في التفاؤل بشأن ما يمكن أن تنتهي إليه الأمور بخصوص إنهاء الانقسام، وتحقيق المصالحة الوطنية.
ما يجري في القاهرة يؤكد لمن يرغب أو لا يرغب أن مصر هي الوالية على الملفات الفلسطينية، وأن البحث عن خيارات أخرى ليس أكثر من عبث سياسي ومضيعة للوقت.
الملفات الفلسطينية جزء أصيل من رؤية مصر لأمنها القومي ولدورها القومي، أيضاً، ولذلك كان الاعتراف العملي بهذا الدور من قبل الأطراف الفلسطينية، مؤشرا على مدى جديته في معالجة هذه الملفات.
عشر سنوات وأكثر غرقت خلالها مصر في همومها، وأزماتها الداخلية وحروبها ضد الإرهاب، لم تمكنها من القيام بواجباتها كما تمليها عليها مسؤولياتها الوطنية والقومية إزاء معانيات الساحة الفلسطينية.
لا شك بأن العلاقة الجديدة بين مصر وحركة حماس، قد افتتحت مساراً جديداً وجدياً، تحرص "حماس" على أن تذهب به إلى كامل أبعاده. تطوير العلاقة، يعني أن مصر قادرة على التأثير على الطرفين، طالما أن هناك مصالح ورؤى مشتركة، وسنلاحظ أن هذا المسار في العلاقة، إنما يشكل مؤشراً على التغييرات الجارية في حركة حماس بعد وثيقتها السياسية وانتخاباتها الجديدة.
لقد أظهرت "حماس" جدية واضحة في تنفيذ التفاهمات والتعهدات التي ترتبت عليها من قبل الشقيقة مصر، حتى لو كان ذلك على حساب علاقاتها، وخياراتها السابقة مع قطر وتركيا. من هذا الموقع والخيار الذي تحرص عليه حركة حماس، كان من الطبيعي أن تأتي استجابتها سريعة على الطلب المصري، بحل اللجنة الإدارية، عسى أن يشكل ذلك، بداية لتحقيق المصالحة. حماس ذهبت أبعد من ذلك حين أعلنت عملياً موافقتها على شروط الرئيس محمود عباس، وهي حل اللجنة الإدارية، والترحيب بقيام حكومة الوفاق الوطني بمسؤولياتها على غزة كما على الضفة، والموافقة على إجراء الانتخابات.
وسواء كانت موافقة "حماس" على شروط الرئيس عباس من باب سحب الذرائع، أو لتأكيد مصداقيتها إزاء العلاقة مع مصر ودورها أو كان ذلك انطلاقاً من رغبة حقيقية في إزالة العقبات أمام تقدم حوار المصالحة، فإنها بذلك تكون قد ألقت الكرة في ملعب حركة فتح. تعلم "حماس" كما تعلم "فتح" والأطراف الأخرى أن المشكلة لم تكن يوماً وجود اللجنة الإدارية وإلاّ لكان حل هذه المشكلة سريعاً، وبدون الحاجة لدور مصر، وقبل أن يذهب وفد "حماس" إلى القاهرة. لذلك محظور على أحد أن يأخذ موافقة "حماس" على محمل الاستسلام والخضوع والضعف، ذلك أن مشكلات المصالحة وملفاتها وتفاصيلها كثيرة، ومن غير الممكن معالجتها من دون حوارات معمقة ووطنية وبمشاركة مصرية مباشرة.
الأسئلة كثيرة والأفخاخ أكثر، والأكياس مليئة بالذرائع، والزواريب التي يمكن أن تقدم لمن أراد إفشال المصالحة مهرباً. ما سمعناه حتى الآن من بعض المسؤولين والناطقين، يقدم نموذجاً ليس حصرياً. فمثلاً فيما يتعلق بموضوع الانتخابات ثمة من قال إن إجراءها ينبغي أن يتم بالتتابع وليس بالتزامن إذ تبدأ بالتشريعية ثم الرئاسية ثم انتخابات المجلس الوطني.
ومن هذا، أيضاً، مطالبة حركة حماس بحل أجهزتها الأمنية حتى تتمكن حكومة الوفاق من ممارسة مهماتها وصلاحياتها.
سؤال تمكين الحكومة ينطوي على عقبات، فكيف ستعمل هذه الحكومة وتمارس مسؤولياتها في ظل سيطرة "حماس" الأمنية، وفي ظل المقاومة وسلاحها، وبأي أدوات ستمارس عملها هل بموظفي "حماس"، أو بالموظفين السابقين، أم بتوليفة من هذا وذاك؟ السياسة مشكلة أخرى إذ لا يجري التطرق لها حتى الآن، إذ يمكن لـ"حماس" أن تقبل مواصلة حكومة الوفاق العمل وفق برنامج الرئيس عباس، ولكن هل ستقبل هي وآخرون المشاركة في حكومة وحدة وطنية بناء على البرنامج ذاته؟
لا أرغب في مواصلة الحديث عن المزيد من العقبات، ولكن إلى حين البدء بحوار وطني شامل لمعالجة هذه القضايا من المفروض أن نتوقع خطوة عملية وموقفا من قبل حركة فتح أكثر من مجرد الترحيب بما صدر عن "حماس"، بعد إعلان "حماس" يفترض أن نتوقع إعلانا فتحاويا بوقف والتراجع عن الإجراءات العقابية بحق غزة فلقد كان المنطق المطروح يقضي بذلك، على كل حال نتمنى ألا يكون ما جرى ويجري في القاهرة مجرد احتفالية أخرى وعودة لتقاذف كرات المسؤولية ونهج الذرائع والاتهامات.
مذاق الأيام المتبقية من عُمر السباق
21 سبتمبر 2024