من المؤلم والمؤسف أن حالة الإنقسام الفسطينية قد استمرت لأكثر من عشرة أعوام.
ومن المؤسف أكثر أن طول مدة الأنقسام ونكرر فشل تجارب المصالحة، قد جعلت عملية المصالحة الحالية منشغلة حتى الآن بالبديهيات وتفاصيلها، مثل تولي حكومة الوفاق صلاحياتها ومسئولياتها ، وآليات تشغيل المعابر ، ومتى وكيف تلغى الإجراءات الناجمة عن حالة الانقسام،ومتى يحظى سكان غزة بمزيد من الكهرباء ، بدل التركيز على ما يجب أن يكون الأهداف الإستراتيجية لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة.
ومن أهم هذه الأهداف ضرورة التوافق على إستراتيجية وطنية موحدة لمواجهة الهجمة الإسرائيلية الرامية لتصفية القضية الفلسطينية ، من خلال إستنهاض العوامل التي تساعد على تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني ، بما في ذلك آليات التوافق على أشكال الكفاح وتوقيتها، وكيفية اتخاذ القرارات السياسية المصيرية بشكل موحد، وماهية البرنامج الوطني للشعب الفلسطيني بعد كل ما شهدته فلسطين خلال أربعة وعشرين عاما منذ وقع إتفاق أوسلو، وكيفية ضمان إنخراط كافة القوى الفلسطينية في النضال المشترك بدل الصراع ضد بعضها.
ولعل من أهم القضايا الإستراتيجية ، الاتفاق على آلية تنظيم البنيان الداخلي الفلسطيني ، سواء على مستوى الإطار الأكبر كحركة تحرر وطني ما زالت تخوض النضال من أجل الحرية والإستقلال والعودة ودحر منظومة الأبارتهايد العنصرية، أو على مستوى إدارة حياة الناس في ما يتوفر من مكونات السلطة أو الدولة المنشودة.
وذلك يعني كيفة دخول كافة القوى إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح هيئاتها القيادية إطارا للقيادة الوطنية الموحدة، ومواعيد وآلية إجراء الإنتخابات لإعادة الحق الديموقراطي للشعب الفلسطيني في إختيار ممثليه. وضمانات إستعادة ما فقد من مبدأ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وذلك لا يمكن تحقيقه بدون مجلس تشريعي قوي وفعال.
ومن أهم القضايا الإستراتجية التوافق على كيفية إدارة الموارد الفلسطينية بهدف دعم بقاء وصمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وخلق إقتصاد صمود مقاوم ، بكل ما يعنيه ذلك من مكافحة للفقر والبطالة وإسناد قطاع تنموي للشباب يفتح الفرص لكفاءاتهم، وتعزيز مقدرات الصمود في وجه الإستيطان الإستعماري وجدار التمييز والفصل العنصري، بما في ذلك تحدي الوضع الذي فرضه الاحتلال في القدس و الخليل و ما يسمى بمناطق "C"،واسناد صمود قطاع غزة في وجه الحصار و من أجل ازالته.
وبكلمات أخرى، فإن ما تحتاجه المصالحة كي تنجح، بالإضافة إلى شرطي صدق النوايا والقبول بمبدأ الشراكة، بما يعنيه من تخلي عن فكرة احتكار سيطرة طرف أو مجموعة واحدة على أي مكان، هو القدرة على إدارة عملية المصالحة بحيث ترتكز نظرتها وحراكها نحو رؤية التحدي الخارجي والمحيط الخارجي والتعامل معه، بدل أن يكون الإنشغال الأكبر بالصراع والتنافس الداخلي، سواء كان التنافس على قيادة حركة التحرر أو إدارة ما هو متبقي من مكونات السلطة .
ومن الواضح أن الإنتقال من نمط لآخر ليس سهلا ، ولكنه الضمانة الوحيدة لتجنب تكرار ما فشل في السابق.
صحيح أن إتفاق المصالحة الوطنية الذي وقع في القاهرة، في عام 2011 يتضمن تفاصيل كثيرة لا حاجة لإعادة التفاوض حولها، ومن الخطأ أصلا إعادة التفاوض حولها.
وصحيح كذلك أن مصر قد وضعت كل ثقلها لإنجاح عملية المصالحة.
لكن ترجمة ذلك الى إنجاز فعلي وشامل يتطلب فعلا الإرتقاء بالعملية برمتها الى مستوى إستراتيجي يركز على مواجهة التحديات التي تقف أمام الشعب الفلسطيني .
وإذا كانت التعددية السياسية والتنوع السياسي الفلسطيني عنصر قوة يتحول الى عنصر ضعف عند الإنقسام، فإن المصالحة تعني القبول بالمبدأ الديموقراطي .
وذلك أمر بالغ السهولة في بلدان مستقلة . ولكنه أصعب بكثير عندها يدور في بلد يعيش تحت الأحتلال ويتعرض لتدخلات خارجية لا أول لها ولا آخر، قليل منها نيته صافية، وكثير منها نيته خطرة ومضرة بمصالح الشعب الفلسطيني.
ولعل تعقيد الوضع الفلسطيني ناجم عن أن مفاوضات المصالحة تدور في نفس اللحظة بشأن عملتين متداخلتين، بحكم الظروف التاريخية، قيادة عملية وحركة التحرر ضد الاحتلال، وإدارة أمور سلطة محدودة ولكنها قائمة وتمس حياة الناس اليومية، وتتعاظم المخاطر عليها كلما اقتربت من دورها المفترض بأن تكون في خدمة حركة التحرر الوطني وليس العكس.
لن أخوض في تفصيل العوامل الإيجابية التي تجعل فرصة المصالحة هذه المرة أكبر وأهمها رأي الشعب الفلسطيني الذي لا يمكن تجاهله، ولا أظن أن من اللائق مواصلة التشاؤم الذي أصبح مزمنا لدى كثيرين، لكن الواجب الأخلاقي والمسؤولية الوطنية والحرص على مستقبل الشعب الفلسطيني تتطلب أن يدعي الذين سيجلسون للتفاوض بعد يومين، الى ترك مخاوف الماضي وآلامه السابقة جانبا، ومعالجة كافة القضايا من منطلق أساسي واحد، التحدي الإستراتجي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني وقضيته.