كان الأفضل لو أن الحركتين الكبريين والمهيمنتين، في الساحة الفلسطينية، أي «فتح» و «حماس»، توافقتا على إنهاء انقسام كيان السلطة (بين الضفة والقطاع) نتيجة تولّد قناعات سياسية لديهما، بإدراك أخطار الانقسام على المصلحة الوطنية ووحدة الشعب الفلسطيني والجهود الرامية لتأطير طاقاته لصدّ سياسات إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، ولرفع الحصار عن مليونين من الفلسطينيين في قطاع غزة، بدلاً من أن تذهبا نحو الاتفاق مضطرّتين بدفع من ضغوطات داخلية وتدخّلات خارجية.
أيضاً، ربما كان الأفضل والأجدى لو حصل التوافق من قبل، بدلاً من استنزاف القوى لعقد من السنين، أو لو جاء في إطار مراجعة للتجربة الماضية ونقدها، أو ضمن جهود إعادة بناء كيانات المنظمة والسلطة، وتصويب الخيارات الوطنية، أو لو تم في غزة أو رام الله أو نابلس أو جنين أو بيت لحم أو القدس، مع الاحترام للقاهرة ولأي عاصمة عربية.
بناء على كل ما تقدم، وعلى رغم الحماسة الشعبية، يخشى أننا إزاء اتفاق هشّ وسطحي، بحيث يمكن لأي من الطرفين أن يتحلّل منه في أية لحظة، وهذا ما اختبرناه بانهيار الاتفاقات السابقة، منذ اتفاق «مكة» (2007)، إلى اليوم، مروراًب اتفاقات صنعاء والدوحة والشاطئ والقاهرة (سابقاً)، مع تمنياتنا له بالنجاح. ما يعزّز هذا الاستنتاج تصريحات بعض القياديين عند الحركتين، في شأن وضع كل طرف شروطه على الأخر في ما يتعلق بترجمة الاتفاق، على أرض الواقع، كما يعزّزه التحوّل المفاجئ نحو المصالحة، من دون التمهيد لذلك في حوارات وطنية، أو حتى داخلية، في قواعد الحركتين/السلطتين، لبناء الثقة المتبادلة.
ومعلوم أننا إزاء حركتين كل واحدة منهما تخوّن الأخرى، وتتهمها بالكيد لها، في وضع ضعفت فيه أصول العمل السياسي القائمة على الوحدة مع الاختلاف، ومع التحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، وفي واقع باتت فيه فكرة تركيز الجهود ضد التناقض الأساسي، بدل تبديدها في التناقضات البينية ـ الثانوية، مجرد تعابير سياسية عتيقة.
بديهي أن الحديث يتعلق باتفاق اضطرّت الحركتان له، كما قدمنا، على رغم أهميته. هكذا ذهبت «حماس» الى هذا الاتفاق لإخراجها من الأزمة التي تثقل عليها، بعد حصار إسرائيلي استمر عشرة أعوام، وثلاث حروب مدمرة، وبنتيجة الأوضاع الصعبة التي يعاني منها فلسطينيو غزة، وتقلص مواردها المالية بعد إغلاق الأنفاق وتضاؤل الدعم الخارجي، وأيضاً نتيجة المتغيرات الإقليمية، وضمنها انحسار تيار الإسلام السياسي، وتحجيم دوره، مع محاولات إضعاف قطر (الداعمة لحماس)، وضغوط مصر في هذا الاتجاه، ولوضع حد للتبعات الأمنية الناجمة عن الوضع في غزة عليها.
بيد أن إدراكنا لهذه الضائقة يفترض أن يتركز على عاملين: أولهما، تخبّط «حماس» في إدارتها غزة، إذ لم تثبت أنها أفضل من سلطة غريمتها «فتح» في الضفة، سيما أنها أدارت القطاع بطريقة أحادية واقصائية، وانتهجت طرقاً تعسّفية لفرض تصوراتها الخاصّة عن الدين على الفلسطينيين. وثانيهما، أنها لم تستطع فرض رؤاها كحركة مقاومة، ولم تعرف ماذا تعمل في هذا الشأن في غزة، إذ اشتغلت كسلطة أكثر مما اشتغلت كمقاومة، أي النهج ذاته الذي اختطته «فتح» في الضفة، في حين أن رؤيتها لاعتبار غزة ساحة لتحرير فلسطين، أو دحر الاحتلال، أو مقاومته، لم تنجح، إذ ثلاث حروب إسرائيلية، باهظة الثمن، مع تضحيات وبطولات كبيرة، لم تفلح حتى في رفع الحصار عن غزة.
في المقابل اضطرت «فتح»، أيضاً، للاتفاق نتيجة الأزمة التي تعيشها، كقيادة للمنظمة والسلطة. فثمة، أولاً، الضغوط الخارجية لإعادة اللحمة بين الضفة وغزة، ووضع حد لكلام اسرائيل عن ثنائية السلطة. وثانياً، تفويت التدخلات الخارجية الرامية إلى فرض صيغة معينة للوضع الفلسطيني، التي تعتبرها «فتح» تدخّلاً خارجياً في شؤونها، وفي مقدمتها التسريبات عن توافق محمد دحلان (المسؤول السابق في «فتح») و «حماس»، بدعم أطراف عربية. وثالثاً، أزمة الشرعية، أي شرعية المنظمة والسلطة والمجلسين الوطني والتشريعي، التي انتهت آجالها منذ زمن. ورابعاً، وصول محمود عباس (رئيس المنظمة والسلطة وقائد فتح) كما بدا في خطابه في الأمم المتحدة، مع قيادة «فتح»، إلى قناعة مفادها إخفاق الخيارات التي تمت المراهنة عليها، من التسوية إلى المفاوضة، وضرورة البحث عن خيارات بديلة أو موازية. ومعلوم أن هذا الخيار لم يوصل لا إلى دولة فلسطينية مستقلة، ولا إلى إنجاز القضايا المنصوص عنها في الحل الانتقالي في اتفاق أوسلو (1993).
في المحصلة يتّضح أن خيارات الطرفين لم تنجح، لا في الرؤى السياسية ولا في طرق العمل، لا في إدارة السلطة وتطوير أحوال الفلسطينيين ولا في مواجهة إسرائيل، لا كحركة تحرر وطني ولا كسلطة، لا في التسوية ولا في المقاومة، لا في الضفة ولا في غزة.
على ذلك فإن حديث بعض قياديي «حماس» عن أننا «في مرحلة تحرر وطني ولسنا في سلطة أو دولة» صحيح، لكنه غير مقنع، ويراد منه تبرير الحفاظ على مكانة سلطوية، لأن «حماس» تصرّفت كسلطة في غزة، أكثر مما تصرّفت كحركة تحرر وطني، ثم إن الحديث عن المقاومة بات عمومياً، ويفترض تحديده، فضلاً عن سابقة استخدام سلاح المقاومة لتحقيق الغلبة في المنازعات الداخلية. في المقابل فإن حديث «فتح» عن أننا في سلطة، ولدينا اتفاقات مع إسرائيل، لا يعطيها الشرعية ولا المبرر لفرض هيمنتها، أو لاحتكار تقرير الخيارات الوطنية الفلسطينية، إذ إن ذلك ينبغي أن يخضع للنقاش العام، وأن يصبّ في تعزيز وحدة الفلسطينيين، وتقوية كياناتهم، وتنمية قدرتهم على الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم إزاء إسرائيل، لا مجرد الخضوع لها، أو لأوهام بات لها عقود.
المعنى من كل ذلك أن أي توافق فلسطيني جديد ينبغي أن ينبني، أولاً، على مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية ونقدها، بما لها وما عليها، وليس على أساس عفا الله عما مضى. وثانياً، إقرار كل واحدة من الحركتين الكبيريين بإخفاق الخيارات التي انتهجتها، إن على الصعيد السياسي، أي المقاومة والتسوية، أو في إدارتها سلطتها، وضمن ذلك صوغ رؤية سياسية جديدة للعمل الفلسطيني، وللكفاح ضد إسرائيل. وثالثاً، توافر القناعة والإرادة لدى القيادات المعنية بضرورة إعادة بناء الكيانات الفلسطينية وبخاصة المنظمة والسلطة، على أسس جديدة وطنية، أي لا فصائلية، وتمثيلية وديموقراطية. ورابعاً، كفّ كل من «فتح» و «حماس» عن التصرّف وكأن كل واحدة منهما قدر الفلسطينيين الأوحد، وإلى الأبد، أو كأنها هي التي يجب أن تحتكر إدارة أحوالهم وتقرّر خياراتهم الوطنية، من دون إطارات مؤسسية وتمثيلية، وفي ظل تغييب الانتخابات، وتغييب المجلسين الوطني والتشريعي.
ما ينبغي أن تدركه القيادات المعنية جيداً، أنه في خضم صراع الحركتين على القيادة والسلطة، ثمة خيار ثالث يشتغل في واقع الفلسطينيين، لا يجري الانتباه إليه على النحو اللازم، وهو الخيار الإسرائيلي، أي خيار الأمر الواقع، واستمرار الاحتلال المريح والمربح، مع الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي والجدار الفاصل، وتحويل المدن الفلسطينية إلى تجمعات محاصرة، مع سياسات التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية والهيمنة الإدارية. والقصد أن خيارات الواقع الفلسطيني لم تعد محصورة بين «فتح» و «حماس»، منذ زمن، إذ ثمة الخيار الإسرائيلي، الذي يشق طريقه بطريقة ممنهجة ومتدرجة، ولكن عميقة ووطيدة، وكلها تتأسس على إبقاء الفلسطينيين في وضع أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، تحت السيادة الإسرائيلية، الظاهرة أو المبطنة.
سيتناقش المجتمعون هذه الأيام من قيادتي «فتح» و «حماس» في القاهرة، وقد يتفقون أو يختلفون على القضايا العالقة، أي على مصير سلاح حماس، وموظفي حكومتها في غزة، وحول الانتخابات، وكيفية الشراكة في منظمة التحرير، وربما في إدارة السلطة، لكن ما سيغيب عنهم مفاعيل الخيار الإسرائيلي، الذي تحدثنا عنه.
ما سيغيب، عن بال المجتمعين في غزة وعن بال القيادات في الضفة والقطاع، أيضاً، أن ثمة خياراً رابعاً، والحديث ليس عن بديل بالضرورة، لأن هذا ليس بالإمكان في الظروف الراهنة، ولأن ذلك رهن بديناميات ومعطيات داخلية وخارجية في المستقبل. وهذا الخيار يتمثل بإعادة بناء الكيانات الفلسطينية (أي المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية)، على أسس تعزز طابعها كحركة تحرر وطني، على حساب طابعها كسلطة، على قواعد كفاحية وتمثيلية وانتخابية ومؤسسية، وإجراء انتخابات (وفق القائمة النسبية) للمجلسين الوطني والتشريعي، حيث أمكن، لتعيين التوازنات الجديدة في الساحة الفلسطينية، وصوغ رؤية سياسية جديدة، ربما لا تقطع مع خيار الدولة المستقلة، ولكنها تفتح الأفق لاستعادة التطابق بين قضية التحرير وقضية الحرية، وقضية الأرض وقضية الحقوق، والتطابق بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وخارطة فلسطين، بعد أن حصل انفصال في كل ذلك.
خيار رابع نعم، هذا بعد إخفاق الخيارين الأول والثاني، وغلبة الخيار الثالث، أي خيار إسرائيل، فلم لا يشتغل الجميع من أجل خيار أخر؟
عن الحياة اللندنية