"الصوفي والقصر" للدكتور احمد رفيق عوض رواية بين طهر الثقافة ومكر السياسة في عوالم الممكن وغير الممكن
لماذا اختار الروائي الفذ احمد رفيق عوض صاحب القامة العالية في الفن الروائي والقصصي الصوفي احمد البدوي بطلا لهذه الرواية ؟ ثم جعل من العنوان جدلية تاريخية حيث قابل هذا الصوفي بالقصر وما يحمل من هموم الحكم والسياسة.. وعبر كاتبنا من خلال هذين الرمزين مرحلة تاريخية في غاية التعقيد وقارب بها واقعنا في ما تشتبك به السياسة والثقافة في ايامنا هذه .. جوهر هذه الرواية اختيار هذه الشخصية ورسمها بطريقة تتجلى فيها روحا عالية تنعكس على ادوار متعددة طاهرة نقية من الداخل وصالحة مصلحة متحركة بعدة زوايا اجتماعية وسياسية وتربوية، تحمل عمقا دينيا يعكس نفسه في المظهر الاجتماعي والسياسي بفعالية خارقة للمالوف وخارجة عن بلادة التقليد الخاوي من الروح وترد على كل من لم يتقن فن التعامل مع الوعي الديني بالطريقة الصحيحة وكانه الشخصية التي ارادها الامام الغزالي في احيائه كما قيل في الرواية عن شخصية الرفاعي . وحتما فان روائيا يريد ان يجيد هذا الرسم فلا بد من ان يسبر اغوار الاحياء ويغوص طويلا في تاريخ تلك المرحلة وشخصياتها المعروفة وهذا ما لمسناه في هذه الرواية الفريدة بعمقها الديني والتاريخي في النص وما وراء النص. هناك كتاب لابي الاعلى المودودي بعنوان العلماء والحكام طرح فيه حالة الصراع والانفصام النكد بين الحكام والعلماء على مر التاريخ العربي الاسلامي .. هنا الامر يختلف لان رواية عوض فيها روح وحياة وقد برع في سبر شخصية البدوي ليطلق منها روحا ثائرة فجعل من الرواية ملحمة تاريخية يشتبك فيها الطهر والنقاء مع الظلم والفساد، الدين القويم الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات جهلهم وتخلفهم الى نور الحق المبين الذي ياخذ بايديهم الى تحقيق حالة الانتصار التي تبدأ بالانتصار على النفس ثم انتصار مجتمعاتنا على ضعفها وتخلفها وبالتالي تحيق النصر على الاعداء .. هكذا رزمة واحدة بمعادلة صحيحة وصادقة .. بينما في خضم واقع متخلف صعب وفي ظروف اجتماعية قاسية ومريرة يكثر من يريد الدين حسب رغباته وفي حدود مصالحه المنحرفة والضيقة . هكذا كانوا يستحضرون من برع في الجمع بين التصوف بمعنى النقاء وبين الاصلاح حيث العمل والسلوك مثل الشيخ الرفاعي فيجعلون منه شيخ كرامات لا يصلح الا للتبرك والركون الى الاوهام .
عندما كان هناك من يعدد للناس كرامات الشيخ الرفاعي قال الشيخ البدوي : لماذا يحبون الاوهام ؟ يا الهي لماذا كانت اوهامنا اقوى من حقائقنا ؟ " هكذا اعترض الشيخ الثائر : " ان الشيخ ترك سننا حميدة ولم يترك كرامات .. ان خير ما تركه لنا الشيخ الرفاعي هو سلوكه وهذا هو الجدير بالاتباع لا شيء بعده ولا قبله "..
ومن خلال حوار رائع يجلي لنا عوض الفارق الكبير بين ما هو في صدور الناس وما هو في حقيقة الحال : " يعني ان الناس هنا يريدون الشيخ الرفاعي كما يتصورون لا كما كان هو في واقع الحال فهم يجرونه الى افهامهم لانهم لا يستطيعون جر انفسهم الى ما كان عليه الشيخ ..
ويصل الواقعي الى : " الشيخ الرفاعي في صدور هؤلاء القوم غير هذا الذي في صدرك " فيرد عليه الشيخ البدوي: أنت تحمي وهما وتدافع عن اسطورة .. فيرد الواقعي : افضل من واقع فقير وعديم النفع .. فيرد الشيخ : ولكنك تسهم في خلق صورة أخرى لشيخنا ..
أية براعة هذه التي تجعلنا نرى أنفسنا هذه الايام عراة .. يعرينا هذا النص ويكشف كل عوراتنا ؟ اية صورة صنعتها ايدينا لهذا الدين النقي الطاهر العظيم هذه الايام ؟ كيف نقطع هذه المسافة الرمادية التي تفصل بين الدين الحق الذي نؤمن به وبين الممارسة والسلوك الذي نجيد تغليفه بالدين دون ان يكون له علاقة بالدين ؟؟
وهنا استذكر رواية المسيح يصلب من جديد لنيكوس كازنتزاكي حيث اتفق اهل بلدة ان يقوموا بتمثيل ما جرى مع المسيح عليه السلام من خلال مجموعة من شباب البلد ليقوموا بالعرض في ذكرى ميلاد المسيح .. وعندما يتقن هؤلاء ادوارهم من خلال تمثيل صادق وعميق ليكتشفوا ان البلد قد ابتعدت كثيرا عن تعاليم المسيح ليتحول معهم التمثيل الى اشتباك بين قيم المسيح الاصيلة وقيم واقعهم المزيفة فتثور البلد عليهم فتتحول التمثيلية الى صلب حقيقي للذي قام بدور المسيح ومطاردة من كانوا معه ..
وهنا يتقدم كاتبنا بكل براعة ليقوم بالعملية الجراحية التي تستاصل الورم السرطاني المنتشر في جسم الامة : كيف تتعامل الامة مع الدين ومع رموزها النقية ومع قيمها العظيمة في واقع متخلف يصر على تشويه الصورة ومسخها ؟ هذا هو الورم السرطاني الذي يواجهه عوض في هذه الملحمة التاريخية بكل ابعادها النفسية والتربوية والاجتماعية والثقافية والسياسية .. كم هائل من الزوايا والابعاد وبرمزية عالية يخوض فيها هذه المعتركات الصاخبة .. تارة يجوب اعماق هذا العالم الذي يحويه صدر الشيخ البدوي وقدرته الهائلة على تشخيص واقعه ومن ثم اطلاق ارادته لفعل وقول ما ينبغي ان يقال .. وتارة يجوب خبايا نفوس الحكام واولي الامر فيدخل كهوفها النتنة ليجلي لنا رسما جليا لما تعتورها من امراض وافات مهلكة لها ولرعيتها .
الرواية فيها طرق عال لجدران الخزان وفيها كي للوعي وفيها (بالاضافة الى التشخيص المرمز البعيد عن المباشر الصادم) معالجات لأسوأ مرض عانت وما زالت تعاني منه الامة الا وهو حالة الانفصال بين ما نؤمن به نظريا وما نمارسه عمليا في واقع حياتنا.. ويرسم طريقا للحل من خلال السيرة الحركية للسيد البدوي .. أزعم بالقول ان عوض هو اول من تناول سيرة صوفي بشكل حركي فقد جمع من خلال طرح سيرة البدوي بين التصوف والثورة وهذا جمع فريد تمثل في كثير من الطرق الصوفيةعمليا مثل المهدية في السودان وثورة عمر المختار في ليبيا وغير ذلك .. وهذا يعيدنا الى المفهوم الاسلامي حيث ورد في الحديث النبوي ان ذروة سنام الاسلام الجهاد في سبيل الله وورد في حديث اخر ان اعلى درجات الايمان وهي الاحسان ان تعبد الله كانه يراك وهذه مناط بحوث اهل التصوف . وهكذا تقوم الرواية بالجمع بين الجهاد والتصوف في شخصية حركية عظيمة هي احمد البدوي .
كما ان الرواية شرحت بمقاطع طولية وعرضية ومن راس الهرم الى اسفله مرحلة تاريخية حساسة تداعى على امتنا اعداء كثر من الشرق والغرب مع اهتراء الجبهة الداخلية بفساد حكامها وحالة الانقسام والتمزق وموالاة الاعداء والضعف النفسي والاجتماعي وتوفر قابلية الهزيمة بكل جدارة .. وهذا هو واقعنا اليوم ليؤكد عوض من جديد كم هي حاجتنا للقيم الصادقة وللتعامل الصادق مع ديننا والحذر كل الحذر من تفصيل ديننا على مقاس اهوائنا .. اعتقد ان هذا جزءا يسيرا من رسائل هذه الرواية المحملة بالكثير الكثير الذي نحن باشد الحاجة اليه .. هذه رواية كقارىء لها وليس بناقد رفعتني وزادتني ايمانا واعطتني ثقة بان الليل الطويل يعقبه بزوغ فجر مهما طال بنا هذا الليل ولكن مع العمل الواعي ومع الانتباه الى النبع الصافي الاصيل رغم كثرة المشوهين والمزيفين ..
وكم كانت هذه الخاتمة جميلة ومعبرة وملخصة لهذا الكم الهائل من الافكار والمشاعر والحياة المتدفقة التي حوتها الرواية : "وفيما كان الجيش يغادر القاهرة للقاء التتار التقى الشيخان العز بن عبد السلام واحمد البدوي .. قال الشيخ العز : اراك تخرج من معتزلك بسهولة ؟
قال الشيخ احمد : المعتزل في القلب ولا مخرج منه ولكن لا بد من حماية القلب ايضا ..
- تماما الاسلام للسوق والجبل ولما بينهما
- الانتصار على التتاري هو انتصار على نفوسنا يا شيخ عز .
- هل ستنتصر هذه المرة يا شيخ احمد ؟
- الله يبتلي عباده بالهزائم ليتواضعوا ويبتليهم بالنصر ليتعلموا .
قال ذلك وهو يتابع المتطوعة من اهل البلد وهم يهرولون للحاق بالجيش المتجه نحو بر الشام ... "
هكذا جاءت خاتمة صارخة وجامعة .. صارخة في وجه الواقع الذي يهرب الناس منه ويجعلون من الدين وسيلة للهروب او انه مجرد متنفس يخرجون من خلاله غيظ قلوبهم ويركنون الى طمأنينة زائفة يصنعوها بايديهم في عملية تصالح مع الدين بالقدر الذي يريدون دون اية تضحية او استعداد لدفع ثمن الحرية والتحرر من ظلم الظالمين .. الرواية رسمت خطا ثوريا واعيا لابعاد الدين الذي يحرر ويغير اوضاع الناس وينهض بهم .. سيرة هذا الرجل كلها تحرر من النفس وهواها ومن الشهوة واضرارها ومن الحكام وطرق اغوائهم واسقاطهم للعلماء والقيم النقية الطاهرة .. مر بنا عوض بمشاهد حية نابضة وبقلم محترف عرف كيف يرسم هذه المشاهد ليس على الورق فحسب وانما في اعماق اعماق قلب القارىء المكتنز بالصور الخاطئة .. اجاد قلم صاحبنا ازاحة هذه الصور لتحل محلها ما رسم وابدع من صور جليلة وخارقة ..
اتوقع لهذه الرواية ان تخلد في وجدان ثقافتنا وان يشار اليها بأنها الرواية التي كانت حكما بين الثقافة والسياسة ومعلما باررزا للعلاقة بين الدين والثورة ... وبين الاسلام التقليدي الشكلي والاسلام الحركي الفاعل وبين الصورة الصافية النقية وبين الصورة المشوهة التي يصنعها اعداؤنا ويصنعها كذلك جهالنا ..