"على الانترنت، لا أحد يعرف أنك كلب". مقولة ذائعة الصيت من الكاريكاتير الشهير لبيتر شنايدر — نُشر في صحيفة نيويوركر تموز 1993 (مرفق). عادة ما يتم تناول هذا الكاريكاتير من خبراء التواصل عند الحديث عن سؤال الهوية الرقمية الشخصية التي “تتشكل، تولد وتنمو وتحبو وتمشي في وسائط الإعلام الاجتماعي” كما وصفها الإعلامي جميل ضبابات.
النقاش الذي أثارته المقولة وقتها يُستحضر اليوم بقوة، ولسبب رئيسي؛ تغول البُعد الاجتماعي sociality في الويب. في العام 1993، وهي المرحلة الأولى للويب web 1.0، لم يكن الويب اجتماعياً بالمفهوم الإنساني—التفاعلي كما نعرفه اليوم. كان إجتماعياً بمستوى أول "عام" وبمجهولية هوية عالية، لاقتصاره على الإتصال وليس التواصل إلى حد كبير. أُعتبر الويب إلى وقت قريب ملاذاً للتعبير، وفضاءً حُراً للنشر مستفيداً من المجهولية وطمس الهوية كدرع. لم يطُل الأمر حتى أصبح التحقق من هوية المستخدم جوهري في ثقافة الواجهة interface culture التي باتت تتمحور حياتنا حولها، كما هو الحال في أكثر من 40 منصة تفاعلية إجتماعية، تمثل مجتمِعة فرعاً واحداً فقط من الويب المتوسع، وقد صار على أعتاب جيله الرابع web 4.0.
إرتبط تشكل الهوية الفردية في تاريخ التطور الإنساني بشكل عضوي بتطوير الحروف الأبجدية -المسمارية والهيروغليفية قبل 5 آلاف عام. بتدشين الإنتقال التدريجي من السماع والمشافهة إلى المكتوب، وأعاد ذلك تشكيل المجتمع ونشوء حضارة إنسانية تُعزز أهمية تفرد الهوية الشخصية وتقدير الذات عن هوية المجموعة، القبيلة.
فكرة أنه "على الإنترنت، لا أحد يعرف أنك كلب”، تبخرت تماماً. الإنترنت الآن “يعرف” كثيراً، يعرف عنك أكثر مما ينبغي، وبأكثر مما ترغب. الهوية الشخصية في الفضاء السيبيري تتشكل بفعل إستدراج وتوريط المستخدم ومراكمة وتوثيق إهتماماته ومشاهداته وتعليقاته ومواقفه، وكل ما يكتب، وما لا يكتب. هوية حقيقية تتمظهر وتنمو وتنضج باستمرار. بل إنها في كثير من الحالات أكثر تعبيراً ودلالة من الهوية الشخصية الواقعية. موثقة نصاً وصوتاً وصورة، وبستلسل زمني، ويمكن إسترجاعها وتفكيكها. عداك عن إرتباطها بأرقام هواتف المستخدمين وحساباتهم البنكية الإئتمانية. ولربما، مجهولية الهوية الحقيقية أصبحت أكثر مجهولية من الهوية الرقمية. وقد تأخذ الأمور منحى مغايراً بعد وقت، ليتخفى المستخدم الرقمي بهويته الواقعية أمام واقع مواز يتماهى فيه الخط الفاصل بين الواقعي والإفتراضي.
حسناً، لماذا لا نَبقَى في وضعية “مجهولية الهوية anonymous” المريحة، متحللة التبعات؟ يُقال أن البوح للغرباء أسهل.
يمكنك ذلك. لكن، لن يأخذك أحدٌ على محمل الجد في واقع رقمي يتسم بالجدية، ولن يُسمع ما تقول، وسيتم تجاهلك، وربما ترفضك خوارزميات التحقق وتقذف بك في مجاهيل واقعك غير الإفتراضي. عليك تحمل مسؤولية إنخراطك في الواقع الرقمي لتكون مواطناً رقمياً يحظى بالإحترام والسماع والمتابعة، وتتمتع بحقوق المواطنة الرقمية. إذن، الواقع الافتراضي في طريقه ليصبح حقيقة وواقع مُتجسد وبمصداقية عالية، ليتحرر من “الإفتراضية” ويرهننا بواقعه هو، جبراً، واقعُ “الأنا” العلنية، المحكوم بقوانين وتشريعات قضائية. وإن كنتَ من ذلك في ريب، فهاك إحصائية IEEE: التي تفيد بأن عدد “الأشياء/الأجهزة” المرتبطة بالإنترنت قد تجاوز 20 مليار شيئاً مطلع هذا العام، وسيزداد وينمو تعلق الأشياء بالإنترنت من ضمنها “نحن”- رغم أهميتنا المفترضة - بمعدل 15٪ سنوياً.
ألا ترانا ندافع باستماتة عن مواقف وتعليقات صدرت عنا في الفيسبوك، وحيث لا مجال للإنكار والتخلي تحت وطئة شهادات غير مجروحة لصور الشاشة الآنيّة “screeshots”! لعل هذا أحد أهم أسباب إحجام كثيرين من التورط في إبداء آرائهم على شبكات التواصل كما تفيد بعض الدراسات. وكذلك رواج شراء اللايكات ببطاقات مسبقة الدفع التي باتت متوفرة في محطات الوقود والمواصلات في بعض البلدان. ناهيك عن الإبتزازات لشخصيات ثقافية وإعتبارية بفضح سرقاتهم لمضمون منشوراتهم. هذا غيض من فيض حول نضوج إدراكنا لأهمية الهوية الرقمية. حب الظهور كما نحب جزء من تقدير الذات. إنها سُمعة، التي يمكن أن تُمحق في “بوست” متقن. جديرٌ بالمعرفة، أن أول من بدأ بالدفع تجاه هذا التحول شركة أمازون العملاقة، التي بادرت بنشر الأسماء الحقيقية لمستخدميها في مراجعاتهم الشرائية وعلى الملأ، بدوافع تجارية لتعزيز موثوقية خدماتها. نجحت أمازون فيما سعت، وسعى الآخرون سعيها.
الهوية الشخصية الرقمية أضحت واقعاً منذ وقت، تجنب ذلك أصبح من الماضي. يتوجب المواجهة، بحسن الإدارة والحد من الهذر الرقمي. وليس خافياً أن أوشاج الوضع الوظيفي والإجتماعي والنفسي الخاص بنا يزداد تعلقاً بماهية هويتنا الرقمية. التي تعتمد على ما نرفد به عوالمنا الرقمية منزوعة الخصوصية، باقية الأثر. لا يمكنك أن تصنع هوية يُعتد بها بالبناء على ما ستفعله لاحقاً، إنها بدأت بالتشكل فعلاً، ومن مخلفاتك الرقمية، سواءٌ أسرَّك ذلك أم أزعجك.
إعادة استصدار هوية رقمية طازجة يتطلب إغتيال الهوية السابقة، وهذا صعبٌ مُستصعب. وقد يصير مخالفاً للقانون بحجة تزوير الواقع. وربما، ستدرس مبادئ ذلك وأخلاقيته ضمن مناهج المرحلة الابتدائية. وستؤثر بشدة على قرارات شخصية مصيرية، مثل التشغيل والوظائف والزواج والإستثمار والتعليم والعمل السياسي والعلاقات. ستختفي تماماً فكرة إرفاق السير الذاتية بطلبات العمل. ما سبق وأكثر، كان ضمن رؤية فانوڤر بوش النبوءة عندما قدم نظام Memex في العام 1938، ونشرت في مقالة تاريخية بعنوان “كما يمكن أن نفكر” في الأتلانتك العام 1945، ما زالت تعتبر إحدى المقالات الأكثر تأثيراً في القرن الماضي، وأكثرها اقتباساً.
سيبيرياً، صرنا نعرف الكلب، وكذلك إبن الكلب. وفي وقت ليس ببعيد، تسونامي "إنترنت الأشياء" القادم وبقوة، سيُعَرِّف بهويات كافة أعضاء شجرة العائلة، وبعدد مرات وأوقات تناولهم لبوظة رُكَب، وعلى المقطع الموسيقي المُحدَّد الذي ألهب مشاعر جدتِك أُمّ أبيك.
لا تترك هويتك الرقمية تُصنع بما يتم التعثر به من مخلفاتك الرقمية. لا تتنبأ بها، إصنعها. فعلى ذلك يتوقف كثير من شأنك غداً.