من يراقب تصرفات الحكومة الإسرائيلية في الأيام الأخيرة يكتشف ـ ان لم يكن قد اكتشف ذلك من قبل ـ أن هذه الحكومة قد فقدت القدرة تماماً على التظاهر بمظهر «الواثق» وانها باتت في الواقع تستجدي الخروج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه بعد عدة أسابيع فقط من تشكيلها.
نتنياهو الذي اعتاد على التحايل عند كل مختنق سياسي والخروج من الأزمات بأقل خسائر ممكنة، وكان النجاح حليفه في اغلب الأحيان، لم يسعفه الحظ هذه المرة، ولم تساعده الأساليب التي طالما اعتقد أنها ناجعة في التخلص من الورطات المتلاحقة لإسرائيل جراء سياساته المتهورة والمتعجرفة.
فبعد كل خطاباته المتعالية والجوفاء من حيث الواقع، وبعد «وعوده» القاطعة للناخب الإسرائيلي برفض كل شيء «وتمسكه» بالعمل على منع قيام دولة فلسطينية ورفضه للتفاوض مع القيادة الفلسطينية الا بشروط مسبقة وخصوصاً «الإقرار» الفلسطيني بالدولة اليهودية، وبعد إعلاناته المتكررة عن قدرة إسرائيل على «مقاومة» كل الضغوط من اية جهة جاءت منها هذه الضغوط.... بعد كل ذلك ينهار نتنياهو دفعة واحدة فيعاود الحديث عن حل الدولتين وعن «ضرورة» المفاوضات مع القيادة الفلسطينية.
فما الذي جرى يا تُرى؟
الحقيقة أن نتنياهو قد فهم أنه بات محاصراً ومعزولاً من غالبية دول العالم، ولم يعد له في هذا العالم سوى قلة قليلة ما زالت تتحدث معه بمنطق فيه شيء من الكياسة، في حين ان غالبية الدول الأخرى أصبحت تتعامل معه علناً وصراحة بمنطق الزجر والتحذير والتهديد.
اكتشف نتنياهو الآن بأن مأزقه أكبر بكثير مما كان يتصور، وان المخرج من المأزق هذه المرة أعقد بكثير من كل المرات السابقة.
وفهم نتنياهو ان موضوع المقاطعة الدولية لم يعد مجرد «وخزة» سياسية، وانها ـ أي المقاطعة الدولية ـ باتت تهديدا مباشرا على المستوى السياسي والثقافي، وهي مرشحة لان تتحول وبتسارع كبير إلى تهديد اقتصادي على أعلى درجات الخطورة.
فعلى المستوى الداخلي، الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية تحدثت بوضوح تام مع الرئيس الإسرائيلي حول الكيفيات التي من خلالها ستؤدي المقاطعة الى توجيه ضربة موجعة الى التعليم الجامعي في اسرائيل، والى تعطل عشرات البرامج البحثية والاكاديمية بما في ذلك المنح والمساعدات وجزء كبير من منظومات التعاون المشترك مع عشرات بل ومئات الجامعات والمعاهد ومراكز البحث والاتحادات الطلابية.
أما وزيرة القضاء والتي لا يوجد لها مثيل ـ من زاوية التطرف ـ على مستوى العالم كله، فلم يعد أمامها على ما يبدو سوى استخدام القضاء علّها بذلك تحاول «ردع» الإسرائيليين أنفسهم بل واليهود في العالم ومنع كل النشطاء من دخول إسرائيل، وهو أمر سيعمق من أزمة الوزيرة ومن أزمة رئيس الوزراء بل ويمكن أن يؤدي كل ذلك إلى مأزق أخطر للقطاع الإسرائيلي نفسه.
أما المعارضة فإنها تستخدم مصطلح الاختناق نفسه للتعبير عن المأزق الذي تواجهه إسرائيل، وهناك من يصرخ، وهناك من يستصرخ للذهاب إلى المفاوضات في أسرع وقت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!
وزير المالية السابق يتحدث عن تقارير «سرّية» حول الخسائر الحقيقية على المستوى الاقتصادي جراء المقاطعة، وعن الأفق المفزع المفتوح على هذه الخسائر.
صحيح أن الإسرائيلي الفرد لم يشعر بعد بالآثار الاقتصادية المباشرة لهذه المقاطعة، لكن الأصح أنه عندما يشعر هذا الفرد بهذه الآثار تكون المسألة برمتها قد خرجت عن السيطرة، ويكون كل شيء في إسرائيل مفتوحا على انقلابات سياسية واجتماعية كبيرة.
اذن نتنياهو لن يجد في الداخل الإسرائيلي سوى «أصدقائه» المتطرفين الذين لا يجيدون سوى توريطه من جديد بورطات جديدة كل ورطة منها اكبر واخطر من سابقاتها. أهم أصدقاء إسرائيل من ساركوزي إلى وزير خارجية التشيك لم يستطيعوا إخفاء «قلقهم» على إسرائيل، ولم يترددوا «بنصح» نتنياهو بسرعة التحرك والمبادرة قبل أن يصبح التنفس الاصطناعي هو الحل الوحيد لبقاء نتنياهو على قيد الحياة السياسية. لقد أتينا على كل ذلك بهدف التحذير ـ التحذير لنا ـ من مغبة الوقوع في الشرك الذي ينصبه لنا نتنياهو.
فكل ما في الأمر أن المخرج الوحيد الذي بات «ممكناً» أمام نتنياهو هو العودة إلى المفاوضات.
لماذا وكيف؟
العودة إلى المفاوضات ستكون بمثابة طوق النجاة من العزلة والحصار المضروب على نتنياهو.
والمفاوضات ستكون الإسفنجة التي ستمتص حالة الاحتقان الدولي التي تراكمت على مدى السنوات الأخيرة، وسيتمكن نتنياهو من خلال هكذا مفاوضات من الإفلات المباشر والفوري ليس فقط من مأزقه الحالي وإنما ـ وربما هذا هو الأهم ـ قطع الطريق على مسار تحول المقاطعة الى تهديد استراتيجي لإسرائيل التوسع والعدوان والاحتلال.
تحاول إسرائيل في إطار «تصديها» لخطر المقاطعة والحصار السياسي لها أن تسوق مقولة المعاداة للسامية باعتبار انها مرادفة ومماثلة للمقاطعة، لكن هذه البضاعة لم تعد قابلة للاستهلاك كما كان عليه الأمر قبل عدة سنوات، ويبدو أنها فقدت ليس بريقها فقط وإنما تحولت في الوعي الشعبي الأوروبي وكذلك العالمي إلى حالة ابتزاز تثير الملل، وهي موضع سخرية واستهزاء من قبل قطاعات واسعة.
المحاولة الإسرائيلية على هذا الصعيد ليس لها أي حظوظ حقيقية من النجاح إلاّ إذا ذهبنا إلى مفاوضات دون تحقيق كامل الاستحقاقات التي حددناها للعودة إلى مفاوضات حقيقية، بمرجعية واضحة وعلى أساس خطوط الرابع من حزيران وعلى اساس جدول زمني ملزم للاحتلال بالانسحاب وفي إطار ضمانات دولية وإقليمية ملموسة وموثقة.
إذا عدنا إلى المفاوضات بدون ذلك سينجح نتنياهو في إفراغ المقاطعة من مضمونها، بل يمكن أن ينجح بصورة او اخرى بربطها بمقولة معاداة السامية.
بل أكاد أجزم أن «فرصتنا» بالنيل من سياسة الاحتلال، ومن كافة منظومات الترابط بين إسرائيل الدولة وإسرائيل الاحتلال هي فرصة أصبحت بحكم السانحة، واصبح الصمود السياسي على هذا المستوى هو عنوان المرحلة التي نعيش، لأن الاستحقاقات التي تحدثنا عنها دائماً ليست في الجوهر شروطا مسبقة، ولأنها قائمة على أساس الشرعية الدولية، وهي مطالب دولية أصلاً، وكانت متبنّاة من قبل الغالبية الساحقة من دول العالم، ولأن السياسات الإسرائيلية على النقيض من ذلك كله فإن الصمود ممكن وضروري، في حين ان «صمود» نتنياهو مشكوك فيه الى درجة كبيرة، وقدرته على المناورة والتحايل تقلصت وانحسرت مساحاتها الداخلية والإقليمية والدولية بما لا يقاس، فإن مطالبنا تصبح مفتوحة على احتمالين لا ثالث لهما.
فإما التحقق ـ وهذه مسألة مشكوك فيها تماماً في ظل الائتلاف الحاكم في إسرائيل ـ وإما أن يشتد الخناق على نتنياهو وتزداد عزلته ويطبق الحصار السياسي عليه بحيث يتحول اختفاؤه عن الحلبة السياسية إلى شرط ضروري وحيوي لكل الأطراف، وفي كلا الحالتين نحن الرابحون.
السياسة الفلسطينية الصلبة المرنة، الواقعية الملتزمة، البسيطة المحنّكة، هي التي أوصلت نتنياهو إلى ما وصل إليه، وعنصر القوة في هذه السياسة هو التوازن المؤسس على المصالح الوطنية.
وبالمناسبة فإن الصمود السياسي الفلسطيني لا يقتصر تأثيره على الاحتلال ومنظوماته وإنما سيؤسس إلى إعادة توحيد الصف الفلسطيني بقدر كبير وأكبر مما تبدو عليه الأمور حالياً.