ماذا بعد «داعش» سياسياً

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بعد أن حاولنا توضيح مرحلة ما بعد «داعش» على المستويات الأمنية وكذلك الفكرية، وخصوصاً لجهة الخطاب الديني تظل مرحلة ما بعد «داعش» سياسياً في موضع المخاض، وفي موضع الترقب من جهة، ولكنها في موضع المساءلة بعد كل هذه التجارب المدمّرة التي مررنا بها من جهة أخرى.
ليس هناك في الواقع العربي اليوم من لديه خطة واضحة ومبلورة لمرحلة ما بعد «داعش» على الصعد السياسية. وحتى لا يبقى الموضوع السياسي فضفاضاً وعاماً إلى درجة يسهل معها التنصل من الاستحقاقات والالتزامات وكذلك المقتضيات والمتطلبات دعونا نحاول تحديد هذه المسألة.
الحقيقة أن الإحاطة بهذه المسألة في مقال أو حتى بحث سياسي هو أمر صعب، وذلك بالنظر إلى الأهمية التي تنطوي عليها مسألة السياسة لمفهوم ومضمون ومكوّنات جوهرية، لكن الأمر يمكن إجماله في ثلاث ركائز أساسية.
الركيزة الأولى هي الحرية والثانية هي الشرعية والثالثة هي الديمقراطية، باعتبارها جوهراً وآلية في بنية اقتصادية واجتماعية تنزع دائماً نحو العدالة في توزيع الثروة الاجتماعية.
أين العالم العربي اليوم من هذه الشبكة التكاملية؟
 في مجال الحريات ما زال الوطن العربي يشق طريقه بصعوبة بالغة في بعض البلدان.
فهناك بلدان لا تفهم من كلمة الحرية والحريات سوى تعميمات لا فائدة عملية واحدة لها. وحرية الرأي والتعبير ـ على سبيل المثال ـ يقابلها نظام صارم في قوانين النشر والمطبوعات. هناك رقابة على حرية الرأي والتعبير بعشرات الأضعاف من حجم الحريات المتاحة.
وهناك مجالات واسعة «لحرية» الرأي في نطاق الدفاع عن الحكومات في حين أن هذه الحريات هي في أضيق الحدود عندما يتعلق الأمر بالمعارضة، هذا طبعاً إذا كان لهذه المعارضة وجود أصلاً.
فحرية الرأي والتعبير ما زالت محصورة فعلياً في مجال (حرية التعبير السياسي) في حين ان حرية المعتقد وحرية البحث والحريات الأكاديمية ما زالت في نطاق المحذورات الكامنة في بعض البلدان وليس لها تطبيقات ذات شأن حقيقي في البلدان التي «تسمح» بقدر معين منها.
اما حريات التنظيم السياسي والنقابي فهي مقيدة الى أبعد الحدود وهي مقيدة بصورة خاصة لجهة ما تتمتع به من استقلالية وحرية في السيطرة على المصالح التي يفترض ان تمثلها وهي غائبة ومغيبة في بعض البلدان في صورة كاملة.
وفي الواقع العربي القائم اليوم فإن العلاقة ما بين الحرية من جهة والديمقراطية والشرعية من جهة أخرى لا تبدو أصلية أو عضوية أو طبيعية.
فنحن نجد في الواقع العربي ما هو عجيب وغريب. فوجود الحريات ليس شرطاً للديمقراطية، والديمقراطية في بلادنا العجيبة لا تفترض بالضرورة وجود هذه الحرية أو تلك وبهذا القدر أو ذاك، وهذا يجعلنا نتحدث عن الديمقراطية باعتبارها شكلاً مقيداً في الجوهر والمضمون لاعتبار عدم ارتباطها العضوي بالحرية.
إذ يمكن للمواطن/ة أن يذهب ليدلي بصوته في الانتخابات، ولكن لا يمكنه بسهولة الحصول على هذا الحق المفترض إذا كانت الانتخابات ستعني الوصول إلى تداول السلطة، مع أن الحق في تداول السلطة هو جوهر أي ديمقراطية وليس كلها.
والديمقراطية الناشئة في بعض المجتمعات العربية ليس فقط سياسية محصورة ومحدودة ومقيدة وإنما ـ وهذا هو الأهم ـ هي ديمقراطية تختزل الحقوق السياسية نفسها ولا يمكنها في معظم الحالات الانتقال إلى الحقوق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. وأما مسألة الشرعية فلها في الواقع العربي قصةٌ محزنة، فعلى الرغم من أن بعض أنظمة الحكم في الوطن العربي إما منقوصة أو مجزوءة الشرعية فإن بعضها الآخر يفتقد بالكامل لهذه الشرعية.
وحتى الأنظمة العربية الشرعية بالمعاني المشار إليها، فهي لا توفر الفرصة الحقيقية لتحديد تلك الشرعيات إلاّ في الحدود التي تمكنها من معاودة ترسيخ «شرعيتها» بحيث تحولت الشرعيات إلى تحصيل حاصل بدلاً من أن تكون فرصة للتغيير الحقيقي وصعود قوى سياسية واجتماعية جديدة.
أي أن شرعية المؤسسات في الواقع العربي منقوصة كما هي منقوصة الديمقراطية وكما هي منقوصة الحريات.
لهذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة غابت أو غيّبت المحاسبية وتاهت المساءلة في دهاليز بيروقراطية مقصودة، وبدلاً من أن تكون الديمقراطية والحرية والشرعية سبباً لمنع رصد الفساد والاستبداد تحولت (بقدرة الأنظمة العربية وبتدبير منها) إلى أدوات وآليات لتفشي الفساد والاستبداد تحت غطاء من هذه «القيم» التي يفترض أنها مصدّات وكوابح لهذه المظاهر.
ضاعت التنمية العربية وضاع الناس في متاهات العجائب والغرائب العربية، وعمّت البطالة والفقر والجهل والتجهيل، بعد أن انحدرت خدمات الصحة وتهاوى المستوى التعليمي وبعد أن أصبحت كرامة المواطن قابلة للهدر ومرشحة دائمة للانتهاك.
 سيأتي «داعش» جديد وتطرف آخر وعنف أكثر وأخطر إذا لم تتم عملية إصلاح سياسية شاملة تصون الحريات وتُعمّق الحياة الديمقراطية وتُجدّد الشرعيات. وإذا لم تدخل التنمية العربية في نطاق رفع مستويات الحياة وإخراج المجتمعات العربية من العوز والفاقة والجهل، وإذا لم يتحول التعليم إلى أكبر هدف للتنمية لبناء موارد بشرية قادرة على الاضطلاع بالمسؤولية الوطنية والتاريخية الجديدة.
إذا لم تتعلم الأنظمة والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية أهمية التغيير على كل هذه الصعد فإن مرحلة ما بعد «داعش» لن تكون إلاّ محطة قصيرة لداعشية جديدة.