نخطئ القول، تاريخيًا وسياسيًا، إن وصفنا "انتفاضة الحجارة عام 1987" بالانتفاضة الأولى، لأنها ليست كذلك، ولم تكن هي الانتفاضة الأولى في التاريخ الفلسطيني المقاوم، فلقد سبقها العديد من الانتفاضات وبعض مما أطلق عليها بالثورات الفلسطينية، مثل انتفاضة موسم النبي موسى عام 1920، انتفاضة يافا1921، وانتفاضة أكتوبر 1933، بالإضافة الى ثورة البراق 1929، ثورة القسام 1935، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
ولأن الانتفاضات أو الثورات هي انعكاس لظروف قهرية وواقع مرير ومؤلم تقوده قوى ظالمة وترفضه شعوب حرة تندفع للتعبير عن عدم رضاها، بل ورفضها لتلك الظروف وتطلعها الى الخلاص من واقع مؤلم والتغيير نحو الأفضل بما يكفل للإنسان كرامته وللشعوب حقوقها عبر انتهاج أشكال كفاحية ونضالية متعددة، كان لابد وأن يترتب على ذلك الكثير من القمع والظلم من السلطة الحاكمة او القوة المحتلة التي تحاول جاهدة لتثبيت سيطرتها على الأرض والإنسان وكبح ارادة الشعوب الثائرة، ومن هنا يتأتى الاعتقال كأداة للقمع والردع وتكبيل الحريات، وتفتتح السجون كأماكن للتعذيب والتأثير على أفكار ومعتقدات المعتقلين وابعادهم عن ساحة الاشتباك اليومي ومحاولة قتلهم معنويا ونفسيا وان أمكن جسديا، ومن هنا تولد قضية الأسرى والمعتقلين. تلك القضية التي نشأت منذ بدايات قمع الشعب الفلسطيني ومصادرة حقوقه، ومنذ الإرهاصات الأولى لمقاومة الشعب الفلسطيني. إذ أن لكل شعب الحق في أن يسعى لطرد أي قوة تحتل وطنه وتسلب حريته وتعتدي على حقوقه. وإن هذا الحق في النضال، يُسمى أصحابه (محاربو الحرية)، على اعتبار أنهم لا يحاربون من أجل العنف، بل لأن قوى أكبر منهم قد أجبرتهم على خوض الحرب لانتزاع الحرية والسلام.
لقد قلت مرارا بأن الاسرى قضية يعود جذورها إلى ما قبل ذاك الوعد المشؤم بسنوات، وأن تاريخها سبق "هزيمة1967" وما قبل "نكبة 1948"، وارتبطت بمقاومة الشعب الفلسطيني للغزاة وبمسيرته الكفاحية من أجل الحرية والاستقلال. لذا فإن الرواية الفلسطينية يجب أن تبدأ فصولها من بعيد ومنذ أن عرف الفلسطيني السجون ووقع فيها أسيرًا، وأن الاعتقالات وعبر مراحلها الزمنية المتسلسلة يجب أن تؤرخ في الموسوعة الفلسطينية بشكل متكامل لتبقى الحقيقة راسخة في الوعي الجمعي للأجيال المتعاقبة، على اعتبار أن قضية الأسرى معلمًا من معالم القضية الفلسطينية و جزءا أصيلا من التاريخ الفلسطيني المقاوم. هذا في حال تناولنا لتاريخ الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة عبر العصور الماضية، ومازال ذلك اليوم الذي توثق فيه كل تلك الاعتقالات والجرائم التي أقترفت بحق المعتقلين الفلسطينيين ينتظر القدوم.
أما ان كان الحديث مقتصراً على الصراع العربي - الإسرائيلي فالرواية يجب أن تبدأ من العام 1948، ومن الخطأ استسهال الأمر والحديث عن الاعتقالات منذ استكمال الاحتلال الإسرائيلي لباقي الأراضي الفلسطينية في العام 1967.
ولطالما أن حديثنا اليوم في حضرة "وعد بلفور" والذكرى المئوية للرسالة التي أرسلها اللورد "أرثر جيمس بلفور في الثاني من تشرين ثاني/نوفمبر عام 1917، والتي وعد فيها اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. ذاك الوعد المشؤوم، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، فمن الأهمية بمكان تناول قضية الأسرى منذ ذاك التاريخ، ويجب ألا نسقط الفترة الممتدة من العام 1917-1948 من التاريخ، من حيث الأحداث والمسؤولية التاريخية لبريطانيا عن تلك الفترة وما تخللها من جرائم اقترفت بحق الفلسطينيين وخاصة الأسرى والمعتقلين.
ان الرواية الفلسطينية في سردها للتاريخ تنتقل مباشرة من العام 1917 الى العام 1948 دون التوقف أمام المحطات المفصلية خلال فترة الانتداب البريطاني، حيث يتم الحديث عن "وعد بلفور" وما ترتب عليه من احتلال فلسطين وقيام دولة الاحتلال على جزء كبير من الأراضي الفلسطينية، وما لحق بالشعب الفلسطيني من مصائب ومجازر وتشريد وتهجير وقتل وابادة جماعية واعتقالات جماعية ..الخ من الجرائم التي اقترفتها الصهيونية بحق الفلسطينيين ومن ثم سلطات الاحتلال، وهذه مسؤولية بريطانيا التي يجب أن تعتذر على ما قام به "بلفور" وما ترتب على ذلك طوال العقود الماضية.
نعم ليس مطلوب منها الاعتذار فقط، أو تعويض الضحايا من الفلسطينيين فحسب، وانما عليها ومن واجبها أن تسعى الى معالجة ذاك الخطأ التاريخي ومسح آثار الجريمة ومآسي ما ترتب عليها من خلال دعمها لحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير مصيره واقامة دولته الفلسطينية المستقلة. ليس هذا وذاك فقط ، وانما وبالإضافة الى كل ذلك فان عليها أن تتحمل المسؤولية الكاملة عما اقترفته من جرائم بحق الفلسطينيين خلال الفترة الممتدة من العام 1917-1948.
لقد ورثت دولة الاحتلال عن الانتداب البريطاني الكثير من السجون والمعتقلات، وعلى سبيل المثال لا الحصر عسقلان والرملة والمسكوبية وصرفند وعتليت، كما ورثت أيضا العديد من القوانين المجحفة والقرارات الظالمة والاجراءات التعسفية والتي ما زالت قائمة ومعمول بها حتى يومنا هذا كالاعتقال الإداري مثلا، الذي جعلت منه سلطات الاحتلال الإسرائيلي وسيلة للعقاب الجماعي وقاعدة أساسية في تعاملها مع الفلسطينيين. فيما المتتبع للأحداث والمتمعن بالحقبة التاريخية (1917-1948) على وجه الخصوص يلحظ وبوضوح كم هي المأساة كبيرة والجرائم فظيعة التي اقترفت في عهد الانتداب البريطاني بحق الفلسطينيين عامة والأسرى والمعتقلين خاصة الذين تُقدر أعدادهم من قبل المؤرخين والباحثين بعشرات الآلاف، حيث كانت الاعتقالات وعمليات الاحتجاز الجماعي تشكل ظاهرة خطيرة.
لقد استعملت سلطات الانتداب البريطاني سياسة القبضة الحديدية والقمع الهمجي وأشد الأساليب عنفا وقسوة وقمعا في معاملة الفلسطينيين، وأن هذه السياسة كانت تتصاعد كلما انتفض الفلسطينيون، بهدف قمعهم وردعهم ومحاولة تركيعهم وثنيهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة. فاتسعت حملات الاعتقالات التي طالت الرجال والشبان والنساء والأطفال، وأنشئت المزيد من السجون والمعتقلات وزج بها آلاف المعتقلين الذين تعرضوا لتعذيب وحشي كالضرب والجلد وفرك الخصيتين وحرق القدمين والشبح وكي الأجسام وخلع الأظافر وحرق الشوارب واللحى، وتسليط الكلاب الجائعة لنهش لحوم المحتجزين، وفرض التعري الكامل على الرجال أثناء الاقتحامات وأمام الآخرين وفي الساحات العامة أحيانًا، ومن ثم تشكلت المحاكم العسكرية وفرضت خلالها الغرامات المالية الباهظة، وصدر عنها قرارات وأحكام تعسفية، ومئات الأحكام بالإعدام، بالجملة ودون رحمة، بحق معتقلين بينهم كثير من الشيوخ والنساء والفتيان، وأن قسما خفض حكمه إلى المؤبد وأمضى سنوات قابعًا بين جدران السجن، وقسما كبيرا من هؤلاء (يُقدر عددهم بالمئات) نفذ فيه حكم الإعدام شنقًا، في ساحة السجن أو وسط ميدان البلدة، وأن اعدام الشهداء الثلاثة، فؤاد حجازي، عطا الزير ومحمد جمجوم عام1930، كان مثالا، لكنه ليس الأول ولم يكن الأخير.
إن هؤلاء وغيرهم، ممن مرّوا بتجربة الاعتقال وتعرضوا للتعذيب والاعدام، بل أن الحقبة الزمنية (1917-1948) بكل ما شهدته من جرائم بحق الفلسطينيين عامة والمعتقلين خاصة، لم تحظَ – بتقديري- باهتمام كاف من الباحثين والمؤرخين وحتى السياسيين والحقوقيين، الأمر الذي يتطلب تحركًا جادا لتوثيقها من جانب، وملاحقة بريطانيا ومحاسبتها على ما اقترفته من جرائم بحق الفلسطينيين في عهد الانتداب البريطاني، من جانب آخر، بجانب مطالبتها بتحمل مسؤولياتها عما نتج عن "وعد بلفور" وآثاره المدمرة وما لحق بالشعب الفلسطيني من مآسي بعد "النكبة".
ويبقى الحق الفلسطيني هدفًا لكل الأحرار في العالم، والحق لا يسقط بالتقادم