ظَلّ الرجلُ القائد الرمز الختيار .. محتفِظاً بصبا الغابات وصيرورة الموج الحلو، من الجبال إلى الموانئ ، حتى السّجْدة اليانعة على الرمل الموعود بالعشب والنشيد والحَجر .
يبدو عادياً، لأنه البعيد الرائق، الذي يمدّ الينابيع في ظهيرة الظمأ.. ليمرع نايُ الأعراس، في أماسي البلاد . تراه راسخاً، لأنه سيف المتراس ، يفهق بين الجمرة والجرح، ويظل قنطرة للصغار والدوالي.
غصن يديه سلّم النجمة العاشقة ، وصوته ممحاة العتمة الثقيلة ، وبصيرته تتجاوز الغابة السائرة إلى القلعة.
خجله لوزة الجبل. فيه نسغ الرحمة والأعياد. تسمع خرير وجيبه كلما سقط شهاب، أو عثرت فرس عند سواتر النار. فيه تواضع السلالة المستحيلة، وعفو اليمامة المستوحشة.
دمعته زهرة ليمون، وابتسامته ثوب النهر . هو عاهل العاصفة ، وغارس أغصان القَسَم . يتفتح في ليل الزنجبيل، ويعلو على رغوة الكلام . لا تهزّه الحوادث، ويمسك بإصبعيه غُرّة الأرض.. ولن يتركها حتى الساهرة، أو فليأت أمْرُها ليلاً أو نهاراً. ثالث اثنين، الفاروق وصلاح الدين . محمول على باشق الحق. يكره الرمل وأشباه الصُّوَر. ولا يسمع إلا مساجلة النجوم . تجاوز السؤال فأصبح ضلعا في كل بيت . يليق بنا ونليق به في المواسم الصعبة .. ونبقى نُحبّه!
*
زعيماً وأباً بالفعل والمجاز ، وعطاءً وتسامحاً، حتى أعجز معارضيه، وجمع المتجاذبين على اختلاف ألسنتهم ووجوههم. لم يتعالَم ولم يُكَمّم السادر في غيّه أو غضبه ، يُعطي المعادلة موازنتها حتى تتمّ، مثلما يقبّل يد الجريح وجبين الثاكل أو يحمل الصغار في حِجْره كأنهم أكثر من صُلْبه. ولأنه يصنع التاريخ ولم يكن غباراً على صفحاته، عرف جيداً أهمية الثقافة ، بمعناها الاجتماعي ، والتي منحها كلَّ أرض العفو، وحرية فطريّة جعلتها تتنفّس بعمق على رغم أنهم أدرجوها في قاع الأجندة، وكانت، في أفضل حالاتها، أكسسواراً للدولة!
في أبي عمار جناح الملاك الخالص، وفي جيبه دفاتر السوق، ما جعله يسير على صخر الهواء، وينجو من فخاخ الأقربين وطعنات الأسمنت والحاملات، وما تزال الراية في يده يحقق من خلالها تجميع الشظايا لتكون ترساً صلباً في وجه الدفن والإلغاء، فأصبح خارقاً في قدرته على قدْح هذا البرق في يباب الشتات، وإنزال غيماته في حريق البلاد الواسع، لقد صاغ أسطورته الملموسة الماسية من نثار الاحتمال فوق البشري، والإدراك المستشرِف والقلب الشجاع الواسع.. لقد كان جريئاً كالموسيقى!
ياسر عرفات؛ الوالد القائد الصديق الذي راوغ الموت ونوازله في كل المنازل، بذل لنا يديه اللتين ترفعان سقف دارنا من القدس إلى العودة، دون أن تخبو جمرة الحلم في المدارك الطالعة وأناشيد المدارس.. لكن أعداءه منا سيلاحقونه ليدلحوا السواد على يديه البيضاء من غير سوء، وسيبحثون عن قدٍّ في قميصه الشريف، وسيغرزون على شفتيه ذبولهم المريب.
وقوّة الرجل من ضعف شركائه أو لغيابهم العميق، وثغرة سلطانه في بطانته البرمكيّة، وفي المسؤولين الذين اشتطّوا في تبنّي مقولات النقيض، ما جعلها ثقلاً جديداً ينوء به الظَهْر الفلسطيني.
وقوة ياسر عرفات الزائدة، هي التي غطّت على المؤسسة برمّتها، فكانت أكثر حضوراً وسطوعاً، وهذا ما يفسّر الكثير من التعويم والنتوءات والفوضى، كما يفسر هشاشة المحيطين به وضآلة تأثيرهم، وذهابهم نحو الخلاص الشخصي، بدل البحث عن صيغة عمل مؤسَّس على المؤسسة والقانون، لقد كانوا أنانيين أو هامشيين، وكانت قوته تشبه ضعفهم إلى حدّ كبير.
أما أعداؤه فقد خافوا مكْرَه ونفاذ بصيرته فحاصروه كما حاصروه من قَبْل ، إلى أنْ ضرب بقبضته على بوابات القدس التي لا تبعد سوى نبضةٍ عن "المقاطعة" التي حاصرهم هم، أيضاً، منها، وشلّ كل خيوطهم، وعمل على تقطيعها والحيلولة دون اكتمال النسيج، الذي كان يستهدف جَدْل حبل المشنقة له أو لفلسطين، لا فرق!
وعبقرية ياسر عرفات؛ كبش فلسطين المُكحّل، أراها في تمكّنه من غرس بذرة الدولة في أرض الدولة، على رغم وجاهة الرأي الآخر.. لكنها بذرة لن تموت، وستشرب الكثير من دمنا، على ما يبدو، حتى تمرع وتكبر.. وتظلّلنا! وبالتأكيد لن يتم ذلك تحت شعارات القُطْرية المنتحرة، أو الانغماس في بحر الأعداء مهما بدا صافياً وناعماً، فالقوي لا يناقش، بل يفرض ولمصلحته! والحوار يكون بين الأنداد، وليس بين السادة والعبيد، أو الضحية وجلاّدها، والشمس لن تغطّيها شمس أمريكا ودولة الاحتلال.
وياسر عرفات الذي أظهره أعداؤه عقبةً كأداء، بعد أن فرضوا علينا "الحلّ" و"البديل"، وبعد أن شوّهوا بديلنا الوطني، وعملوا على القضاء المبرم عليه، وبعد أن أقنعوا الكثيرين بأن احتجاجنا سيبهظنا أكثر، لنكون ضحايا إيجابيين! سيواصلون إقناعنا بأن نخيط أكفاننا بأيدينا، وأن نبدّل قاموسنا وروحنا وشكلنا، وأن نقطع استطالاتنا لنليق بما فصّلوه لنا من أثواب التابوت، وربما سيجدون، من بيننا، مَنْ يتماهى معهم، ويكون مجلساً يحكم بمشيئتهم التي لا تصادر ثرواتنا، بل ومستقبلنا أيضاً، بعد أن رتّبوا الإقليم المحيط ، وأطبقوا على عنق الأرض، وسينسون، كالعادة، أن شعب الجبّارين الذي أصّله "الختيار" قد أنبت هذا الرجل الذي تناسخت منه المدن والقرى والنجوع والسقائف.
وسنرمي قمصان شهدائنا على وجه النهار، ونستذكر في بيوتاتنا وصفوفنا رجلاً يُعطي عمره ، غير منقوص، لهذه الثاكل الحامل فلسطين، وعندها؛ لا بأس من المبالغة المحتملة بأن نقول: لنا صديقٌ مرنٌ، وحميمٌ إلى حدّ القشعريرة أو شدّة القرب.. من دون حجاب، وأن اسمه ياسر عرفات.
*
هذا الرجل تختلف الآراء بشأنه ، لكنّنا لا نختلف معه على مواقفه التي يصرّ عليها، والداعية إلى أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من نيْل حقوقه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
"ختيار" تجرّأ وبلغ بضعاً وسبعين عاماً من عمره، له حضور رنّان، وعينان تخترقان الستائر والغبار. متواضع إلى حدّ العاديّة، ومَرِن إلى درجة الليونة، لكنه لا ينكسر ولا تندّ عنه نقطة ماء إلا بإذنه وكامل رغبته. أمضى عمره مناضلاً في سبيل قضية شعبه، ما جعله رمزاً لنضال هذا الشعب ولمسيرته الصاخبة الدامية. وعلى هذا – على الأقل – وحده يستحق التقدير والاحترام، مهما اختلفت معه أو تباينت بينكما الرؤى والمواقف والتقديرات.
يؤمن بشعبة، وباللحظة المكثفة التي يراها وضوح الشمس، وهي انتصاره الأكيد. ليست له أنياب السلطان الحاكم أو مخالب الدمويين، يقبل الرأي الآخر، ويتّسع للنقد وإشارات الضيق والغضب.
في كثير من الأحيان لا تفهمه، ويبدو غامضاً، على وضوحه، خصوصاً فيما يتعلق ببعض الشخصيات، غير المرغوب فيها جماهيرياً، والتي تُعتبر قريبة منه (يبدو أن الأشجار بحاجة دائماً، إلى السّماد .. لتكبر!) لأنه ببساطة، غير مضطر لهذه العلاقة النافرة! يُعطي دون حساب، وقلّما يحاسب. يدخل الوحول، لكنه، يظل نظيفاً، ولا يخفض عينيه، بل يبقيهما معلّقتين في السماء. يحبّ بوضوح الأطفالَ والشعراءَ، ويثق بقدرات المرأة ويقدّمها في مجالسه على الرجال. يبدو لي خجولاً وأقرب إلى التمثال اللحمي الذي لا تظهر عليه ملامح التعب أو الأحمال أو الكوارث التي تحيط به من كل جانب. فيه حياد البروفيل الجاهز، لكنّ علائم الغضب تبرز كل خليّة في وجهه ويديه، وعندها ينبغي الصمت!
لم نكتشف، بعد، أهمية هذا الرجل، ودوره الحيوي، ومعنى وجوده بيننا بالفعل، إن الألفة تولّد الاستهتار. أظنّ أن هذا الرجل لا ينام، كما ننام! ليس خوفاً فهو جسور ومشهود له بالشجاعة وثبات قلبه، لكن إنساناً يحمل على كتفيه قضية فلسطين ومقدساتها وشعبها وما يتعرض له، لا يمكن له أن ينعم بحلم خفيف أو بنوم عميق، وهذا يفسر قلّة طعامه، وبساطة مائدته، ومحدودية ملابسه وتعدادها القليل، وغياب الأبّهة عن مكتبه وما يحيط به.
في زهده كبرياء وعمق، وفي صبره متّسع لكواكب وأثقال، وفي صدره هدف يتفلّت مثل النبع بين صخور الصوّان. باختصار يريد أن يُصلّي في القدس المحررة، ليكتب التاريخ أن القدس التي فتحها عمر بن الخطاب وحررها صلاح الدين - رضي الله عنهما - قد أعاد تحريرها ياسر عرفات ، وهذا من حقّه، ومن حقّه علينا أن نُعيْنه على ذلك ، رغم كل ما نختلف معه عليه، حول قضايا ، على أهميتها ، تبدو ثانوية أمام هذا الهدف العظيم.
خصومه هم غالباً خصوم وأعداء شعبه، ومحبّوه شعوب تهتف لفلسطين ولمقدساتها. بل إن إعداءه يسعون إلى توجيه الإهانات إليه ويعلنون رغبتهم في كسر شوكته وإذلاله ، رغم أنهم يعلمون أنه لن يمنحهم توقيعه الذهبي على وثيقة الاستسلام ، بل سيمنح هذا التوقيع لاتفاق السيادة والدولة بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين . ولن يجدوا أحداً غيره -الآن - يستطيع أن يمهر الاتفاقات، ويثق به شعبه الفلسطيني .لهذا فإعداؤه عاجزون عن قتله وعاجزون عن ابتلاعه .. يريدون التخلّص منه لأنه عقبة كأداء في طريق تسويتهم لقضية شعبنا ، ويلحّ عليهم لننال حقوقنا المشروعة في حدودها المعقولة والمقبولة ، ولا يريدون التخلص منه لأنه الوحيد القادر على ضبط الفلسطينيين وعلى منح موافقتهم على الاتفاقات ، لهذا يعذّبونه ويسجنونه ويوجّهون غيظهم وإهانتهم له ، وهو صابر ثابت ، مدرك للعبة الصعبة التي تتفاقم حوله .لكنهم سيقضون عليه إذا خرج عن دائرة السيطرة الإقليمية .
تراه يلبس ثياب الفِرَق التي تلعب، بل إنه يلعب بالكرة نفسها وفي الملعب ذاته، وبشروط الحَكم نفسه، لكنه دائماً يسعى لردّ الكرة إلى النصف الآخر، أو إلى الفريق الخصم . ربما يكون مضطراً لذلك، لأنّ أسباباً ثقيلة، دولية وإقليمية، تدفعه إلى ذلك الملعب الكريه، ويعرف أبو عمّار جيداً أن لذلك "اللعب" ثمناً باهظاً.
إن معضلة ياسر عرفات تتمثل، تاريخياً، في إيجاد جواب شاف لسؤال التنازل عن فلسطين التي تم احتلالها العام 1948، رغم كل المبررات التي يسوقها الذين دفعوا باتجاه " السلطة الوطنية " ، والتي لها وجاهتها ، ومن الصعب عدم الالتفات إليها . غير أن عدم إيجاد حلّ لقضية أربعة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، والإغراق في الحلّ الجغرافي (الضفة والقطاع) وعدم إبقاء منظمة التحرير الفلسطينية غطاء قانونياً وتمثيلياً للاجئين، يعمّق تلك المعضلة، ويُبْقي الأبواب مفتوحة على مصاريعها، للنقد والاتهام.
وبالرغم من أن قوّة الشروط الموضوعية الفلسطينية المحيطة بياسر عرفات، قد تسللت إلى بعض سياسات القيادة والقائد، على وجه الخصوص، فإن أبا عمار كان أكثر مناعة من أن تجتاحه تلك الشروط أو تسيطر عليه. والمفارقة، أيضاً، أن بعض سياسات القائد قد أثّرت كثيراً في المحيط المجتمعي الفلسطيني، وظهرت تجلّياتها، غير مرّة، وبشكل ظاهر.
إن إعداء ياسر عرفات الذين ينتقدون سلطته بالفساد هم كاذبون، لأن مصلحتهم تقتضي بأن تكون السلطة فاسدة، غير أن هؤلاء الأعداء يوظّفون هذه الظاهرة للإساءة لياسر عرفات ولابتزازه والضغط عليه. وإن مجمل الانتقادات التي يتم توجيهها لياسر عرفات إنما تستهدف ما يمثّله ياسر عرفات وطنياً ورمزياً، ، ولا تستهدف شخصه أو مساوئ موجودة وتمس الشعب الفلسطيني . وهذا لا يعني أن أبا عمار معصوم عن الخطأ، أو غير مُطالب، فلسطينياً، بمعاودة الكثير من الظواهر وتصحيحها، وعَجْم مَنْ حوله، وفرز الكثير من الخطوط المتداخلة. إنني لا أطالب بتقديس شخص ياسر عرفات، لكنني أعارض الإساءة المجّانية لهذا الرجل الذي يصيب ويخطئ، لكنه - رغم كل ذلك - ما زال ذلك المناضل الذي لم يتنازل عن القدس ، ولم يعط جواده للريح والأعداء.
وياسر عرفات أسطورة الناس، التي اتفقوا على أن قوامَهُ يحتمل أثقالهم وهواجسهم ورغباتهم، فوضع كلُ فلسطيني وعربي شيئاً من نفسه في أبي عمّار، فأصبح مِلْكاً لكل الناس الطيّبين، الذين استجاب لهم، وتماهى مع تطلّعاتهم وأحلامهم وعبّر عنها ، وأصبح وجدانهم وهتاف روحهم، وأفتُتِنوا بمخلوقهم، وأصبح نجمَهم الذي يسعون إليه، ويتلقفون مواقفَه وكلماته، ويحفظونها ويردّدونها، ما يفسّر تلك الجماهيرية والإقبال، منقطع النظير، على التقائه وأخْذ الصور معه ووضعها على جدران التباهي والانتماء.
ولهذا، فإن كل عربي وإنساني، يحس أنه "حصَّته" مُحاصَرَة في هذا العملاق الفذّ، وأنه جزء من حالة رمزه الذي يفتخر به ويباهي.
حصار الرئيس
يوم العشرين من أيلول - أسبوع كامل ويكتمل العامان على بدء انتفاضة الأقصى - وقبل ذلك كان يوم جمعة، حيث صلّى المسلمون في بيوتهم، لأن المساجد والجوامع لم تفتح أبوابها منذ الثامن والعشرين من آذار الماضي 2002. أي سته أشهر لم يُرفع فيها اسم الله على المحاريب والمنابر، وغاب صوت المؤذّنين يدعون إلى الصلاة، أي حيّ على الصلاة وليس "حيّ على الجهاد ". الصلاة ممنوعة في المساجد في زمن الاحتلال اليهودي!
والصلاة ممنوعة في الكنائس في زمن شارون وبوش وصمت العالم المسيحي والإسلامي والبوذي واليهودي والسيخي !
وعلى الموتى أن ينتظروا في ثلاجاتهم، أو على التذاكر الخشبية وتكّة غسل الموتى ! وعلى الأجنّة ألا يتعجّلوا صرخة الولادة! وعلى المرضى أن يكتموا أوجاعهم والآمهم ويعضّوا على أقرب شيء! وعلى الجوعى أن يضعوا حجارة على بطونهم حتى لا يعصرهم الجوع بمخالبة وأنيابه !
وعلى الآباء الذين ينظرون أبناءهم مكوّمين أمامهم كابين مكتئبين خائفين، دون خبز أو حليب أو ماء أو كهرباء أو حراك، أن يغمضوا عيونهم، وينسوا، إن استطاعوا! وعلى مَن هدموا بيته ، أو قتلوا ولده ، أو خلعوا حقله ، أو هرسوا مركبته ، أو حرقوا مخزنه ، أو جرحوا زوجه، أو سجنوا شقيقه ، أو ضربوا وأهانوا جاره ، أو منعوا خاله من العمل ، أو عمّه من الوصول إلى المشفى، أو منعوا أخته من الولادة في العيادة ، وحالوا دون أن يذهب صغاره إلى المدارس ، أو حبسوا شعبه كله في معازل كبيرة ثم في سجون صغيرة هي بيوتهم ، لمدة عامين كاملين ، ومن دون أن يقف العالم ضد كل ما يجري، عليه ألا يفقد عقله أو يُصاب بمرض مُميت ، بل عليه أن يبتسم ويأخذ زينته ويبحث عن أقرب منصّة حجريةً ، ويقف ، ويجمع كلَّ الماء الذي في فمه ويبصق في وجه العالم .
يوم الجمعة، العشرين من أيلول 2002، يشهد المرة الثالثة التي يحاصر فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي مقرّ الرئيس ياسر عرفات في رام الله بالمدرّعات والمجنزرات والجرّافات والديناميت، وبغطاء من طائرات التصوير التي تسمى ( أم كامل) ومروحيات (أباتشي)، وبالصواريخ ، وبحملة إعلامية مسعورة تمتد من تل أبيب إلى واشنطن . يقوم الجيش بكل آلياته بهدم ما تبقى من أبنية وكراجات وقاعات وممرات وأرضيات وأرصفة ومخازن ومسجد صغير وساحة مهبط لطائرة الرئيس، ويظل الرئيس ومن معه في غرفتين ناتئتين كالمسلّة الغليظة وسط فراغ مخيف، والأدهى أن المسؤولين العرب (والأصدقاء) والمسلمين يجرون الاتصالات ويتوسّلون أمريكا، لعلّها نضغط على شارون ليوقف عدوانه ضد مقر أبي عمار. العالم العربي والإسلامي كلّه من المحيط إلى الخليج والذي يطالب بالتطبيع وليس بالتحرير ، يرجو شارون ليوقف عدوانه ضد رجل ليس له ذنب سوى أنه يرفض أن يكون مطيّة أو عبداً أو بيدقاً بيد شارون أو بوش!
وهذا الرجل لا يطلب إلقاء إسرائيل في البحر أو تفجيرها ، بقدر ما يعلن استنكاره للعمليات الاستشهادية التي تقع هناك داخل إسرائيل! فماذا يردون من هذا الرجل أن يكون عميلاً صغيراً، ولعبة متحركة بيد شارون؟! ماذا يردون من رجل وافق على (تطويب) ثمانين بالمئة من فلسطين التاريخية لليهود، الذي ليس لهم أي حقّ في فلسطين، مقابل أن يقيم دولته الصغيرة على ما تبقّى منها ؟!وماذا يردون من رجل يُبدي استعداده للتعاطي مع إسرائيل التي عليها أن تعطي الفلسطينيين بعض حقوقهم المستلبة؟ أي مشهد كاريكاتوري أبلغ من هذا المشهد: العالم يتوسّل شارون المعتدي ويرجوه أن يوقف مذبحته بحق الأبرياء ثم يعلن للعالم، في مجلس الأمن أن على الفلسطينين حماية أمن إسرائيل !! وأنّ ما يجري حول مقرّ الرئيس عرفات لا يعد أمراً خطيراً ، ثم تعلن أمريكا أنها تتفهّم ردّة فعل إسرائيل التي تدافع عن أمْنها !! هل ثمة شيء آخر غير أن نغسل وجه هذا العالم؟
منذ العام تقريباً وهم يحاصرون ياسر عرفات الذي لم يغادر مربّعه، إلا ساعات هنا وهناك. عام كامل وأبو عمار محاصر، مسجون، محبوس، مراقب، محاط بالبنادق والمناظير الليلية وفوّهات المدافع ورشاشات الطائرات، مضغوط ، يضعون أمامه قوائم مطالبهم واشتراطاتهم المُذلّة المستحيلة، لكن أبا عمار الذي لم يكن هذا حصاره الثالث بل هو الثالث والثلاثون .. يعرف جيداً قَدَره وقَدْره، ويعلم أنه المتوّج رغم أن الأخرين يظهرون كالمنتصرين . وربما على شارون ألا يحارب، هو وغيره، أثنين، الأول الذي لا تهمه الخسارة والثاني الذي يكون على حق . وأبو عمار تهمّه الخسارة وتحزّ في قلبه، لكنه يحتملها، وأبو عمار محقّ إلى يوم يُبعثون، لهذا فهو المنتصر، مهما تكن النتيجة ولن يكون شارون أكثر من مجرم سفّاح محتلّ متغطرس ..وإلى حيث ألقت!
إن ياسر عرفات، وهو مُحاصر، يصنع التاريخ الصعب، رغم حملات التشويه والتشكيك والتبسيط المشبوه . وياسر عرفات يتمتع بمعنويات فذّة لا تليق إلا برجل مثله. لقد تحدثت معه عبر الهاتف لأطمئنّ عليه، لكنه سأل عن الناس والصغار، وراح يطمئنّ علينا!
أي إيثار وجسارة وعلوّ يتمتع به هذا الرجل ؟! تحاول أن تسنده بالكلمات لرفع معنوياته، فيمدّك بفيض من الثبات والرسوخ والإيمان والصبر.
إن الحديث مع ياسر عرفات، في مثل هذه الظروف، وهو مستهدَف ومخذول، يُنسيك مرارة القهر، ويأخذك إلى صموده وإشراقه. لكنني أسأل، مع هذا، عن غياب صوت الكثير من المسؤولين الفلسطينيين، الذين التزموا الصمت ، ولم يحرّكوا ساكناً ، ولم يرفعوا عقيرتهم احتجاجاً واستنكاراً وتحركاً إعلامياً وفصائلياً وجماهيريا في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وعبر الفضائيات والبيانات .. أين هديرهم؟ وأين صوتهم الناقد الناقم؟ وماذا يعني هذا السكوت؟! هل يردون إثبات أنهم مثل باقي المسؤولين العرب؟!
عندما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي أوّل مرة مدينة جنين ومخيمها البطل، قبل الاجتياح الشامل الذي وقع في شهر آذار، ببضعة أشهر، سمعنا تصريحات تقدح شرراً وتهديدات مهولة مرعبة، من بعض المسؤولين الفلسطينيين والوزراء والأمناء والوكلاء.. الخ ، الأمر الذي اطمأنّ معه الناس ، إلى أن هؤلاء المسؤولين قد رتّبوا كل شيء ، وأن إسرائيل ستغرق في وحل دمائها إذا اجتاحت شبراً واحداً من الأراضي الفلسطينية ، واكتشفنا بعد أسابيع أن إسرائيل كانت تجتاح بعض المناطق ، وتخرج منها ، لقياس قوتنا ، وإجراء تمرين "بروفا" للاجتياح الكبير ، وتعرف ردود فعلنا وإمكانياتنا وقدراتنا ، وربما كانت تعرف - للأسف - أن تلك التصريحات النارية لم تكن أكثر من زبد .. ربما كانت هي وراء تصديره للناس، لإيهامهم وإحباطهم وتعميق مأساتهم.
أين المسؤولون؟ وأين الأبواق الفرسان ؟ وأين المحيطون بياسر عرفات الذين أثروا واستغنوا .. وأصبحوا قادة ومن علية القوم؟ أين هم اليوم وهو محاصر تدكّ غرفتَه مدافعُ الاحتلال، وتتفلّع الجدران من حوله من جرّاء القذائف، واحترق كل التموين في مخازنه .. ولم تعد أمامه حبة أرز أو شربة ماء؟! ولماذا طاب لبعض المسؤولين أن ينقلوا عائلاتهم وأموالهم ومصالحهم الكثيرة إلى خارج الوطن، وما زالوا يزعقون في وجهنا ، وما زالوا يزعقون في وجهنا، لإقناعنا بأنهم مسؤولون وتطهريّون ؟! إنهم مثل كلب الحداد الذي لا توقظة الضربات الحديدية بل يوقظة صوت المضغ والطعام!
إنّ حصار ياسر عرفات هو تتويج لكل حصارات الاحتلال التي يفرضها على كل ما هو ومَنْ هو فلسطيني . وهو حصار يهدف إلى توجيه إهانة لكل مسؤول وفرد عربي يخفق قلبه للقدس، أو تقطر عيناه مع أمهات الشهداء على القتلى، بل هو تلويح أمريكي إسرائيلي لكل حاكم عربي، مسلم، أو في أية بقعة في هذا الكوكب، ودرسٌ لهؤلاء الحكّام ينبغي عليهم فهمه، ومفاده، أنه إذا لم يخضع كل حاكم لإدارة أمريكا وإسرائيل ، فإن مصيره سيكون الإهانة والحصار والعزل.
وإن حصار ياسر عرفات هو ذروة الحصارات الأمريكية الإسرائيلية المضروبة على ثروات العرب والمسلمين ومقدّراتهم وقراراتهم ومستقبلهم، وهو أحد تجليات السياسة الأمريكية الإسرائيلية التي ما فتئت تستبيح كل شيء، وتوظّف كل شيء، لإشباع شهواتها وتحقيق رغباتها على حساب الشعوب ، دون أدنى رادع من الاخلاق أو الأعراف أو المواثيق.
وإن حصار ياسر عرفات يؤكد أنّ لاءه ما زالت قائمة، وأنه لم يرفع، ولن يرفع، الراية البيضاء.
وسنبقى مع هذا الرجل، ما دامت ال"لا" الفلسطينية قائمة، وما زال يُصرّ على نيل حقوقنا المتمثلة في إقامة دولتنا المستقلة كاملة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين إلى وطنهم الأول .. غير منقوصين. إننا نعوّل على هذا التاريخيّ. ونراهن عليه.
ليلة نهاريّة
تقول الأسطورة القديمة : " التقى الإلهان في منازلة دون أن يتمكّن أحدهما من إخضاع الآخر ، فأصبحا صديقين وخلقا المأساة " .
ولأننا لسنا آلهة، نحن الفلسطينيين، بل بشرٌ متحضّرون، فإننا ننازل أعداءنا ليستيقظوا من وَهْم الكارثة التي يقودون أنفسهم وغيرهم إلى هاويتها، ولا نسعى لإخضاعهم، عكس ما يسعون إليه، ونحاول أن نصبح "جيران" ، بشروط إنسانية ندّية ، حتى لا تظلّ المأساة.
غير أن سماءنا، ومنذ عامين كاملين 2000- 2002، جعلها الاحتلال الإسرائيلي سديماً خانقاً، مثلما حوّلها العالم اللامبالي إلى سماء خرساء .. لا تنطق فيها غير قاذفات الطائرات .. التي تئزّ من فوقنا، صباح مساء، محمّلة بالقنابل والرعب. وربما حلم أطفالنا بأن تلتقي طائراتهم الورقية الملّونة الخفيفة .. بطائرات تشبه الطير الصناعي اللطيف – الذي تخيله ليوناردو دافنشي – يحمل الثلج من قمم الجبال الشاهقة، في الصيف، ليرشّه على المدن من أجل تبريدها. ولم يحلم صغارنا، بالتأكيد، بتلك الصواعق التي تصبّ حمولاتها الجحيمية ، وقضبانها البرقيّة الخاطفة على الأحياء والبيوت والطرقات. لكنه الاحتلال الذي يعتبر جوهر حياته هو الرغبة في موت الآخرين ، والسيطرة على كل شيء. إلا أن كبرياء الزهد في رمزنا وشعبنا جعله يستقبل الشهادة بفرح، ويفرش دمه كالمرجان الأحمر ليكون أرض جزيرته التي يقيمها فوق الهاوية. والشهداء يتمتعون بالجنّة ، جيداً، لأنهم يعرفون جحيم الاحتلال .
إنّ السوبرمان اليهودي - وليس النِيتْشَويّ فحسب - ليس إلا سراباً يخدع الإسرائيلي التعيس. ويمكّنه من تحمّل الحياة والموت ، لهذا فهو سادرٌ في غيّه ولن يوقفه إلاّ الصمود أمامه ومواجهته، لعله يشفى من أوهامه. وهذا يحدث لأول مرّة في التاريخ، أن تقوم الضحيّة بتنظيف ومعالجة ذابحيها.
وبالردّ على إجراءات الاحتلال والثبات مقابله، ومقارعته سيكتشف هذا المحتل الُمعتدي عادّيته وبساطته وإمكانية أن يحيا بشكل طبيعي مع محيطه. بالدم سيكتشف هذا السوبرمان أن العالم مقسّم على الجميع بالتساوي، وليس ملكاً له وحده. وسيكتشف أن الله للجميع، وليس "ربّ الجنود " أو "ربّ إسرائيل".. وسيكتشف أن دمه ليس من فصيلة أخرى ملائكية .. والحقيقة، بالتأكيد، مميته بالنسبة للإسرائيلي المُحتلّ، إلا أنها أسمى من أجمل الكذبات وأغناها.
وربما، يبدو للعيان أن الردّ الفلسطيني على التنكيل والهستيريا الاحتلالية قد تأخّر، لغير سبب. غير أن ليلة 21/9/2002 جاءت كالسيل الذي رنّق الأرض وغطّى أخاديدها الجافّة، وبشّر بأن البستان الفلسطيني الريّان ما زال قادراً على أن يتجاوز كل الحرائق، يُمرع بدلاً منها أدغالاً خضراء.
منذ ثلاثة أيام وآليات الاحتلال تنهش جدران مقر الرئيس، بعد أن نسفت كل الأبنية المحيطة، ورشقات الرصاص الغليظ لم تقف عن تنخيل الجدران والنوافذ، والعالم يغرق في صمت العار. والفلسطينيون محشورون في بيوتهم، تحت نظام حظر التجول وأرتال الدبابات والمجنزرات، ووسائل الإعلام تتابع لحظة بلحظة ما يدور في "المقاطعة" أو حول ما تبقّى منها. إلا أن خبراً مختصراً قلب كل التوقعات، وهو أن الاحتلال سيقوم بنسف المبنى المقابل لمقر الرئيس، وأن هذا الانفجار سيؤدي إلى كارثة، لأن في أسفل هذا المبنى صهاريج للنفط والغاز، وأن انفجارها سيزلزل المكان برمّته، وسيؤدي إلى انهيار مقرّ الرئيس عليه وعلى مَنْ معه. وماهي إلا دقائق ، بعد تداول هذا الخبر حتى خرج الناس من بيوتهم ، بلا وعي منهم ، وراحت المآذن تكبّر وتنادي وتستصرخ، والجرسيّات في الكنائس تدقّ وتدقّ ، وامتلأت الشوارع بالسيارات التي أطلقت أبواقها الجماعية في تظاهرة صاخبة أصابت قشعريرتها الحديد ، وطفق الشبان والنساء والرجال والفتيان، رغم كل إجراءات المنع والتهديد والرصاص ، طفقوا الى مراكز المدن والمخيمات والبلدات ، رغم التهديد والرصاص .. طفقوا إلى مراكز المدن والمخيمات والبلدات ، وتعالت الحناجر ، واصطهدت الطرقات ، وبكت النساء ، وزغرد بعضهن ، وارتفع التكبير ، وعلت صيحات النداء بحياة الرئيس عرفات ، والتقت الجموع بقوات الاحتلال التي فتحت نيران بنادقها الطائشة على المتجمهرين ، فسقط الجرحى، واعتلى الشهداء أكتاف الناس، وتفرّق الجمع اتقاء الرصاص والغاز المجنون ، وعادوا ورشقوا قوات الاحتلال بالزجاجات الحارقة والفارغة والحجارة ، وما هي إلا لحظات حتى كانت مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع بُقعاً مُضاءة بالحشود والأناشيد والدماء، ووصل الصوت إلى أعنّة السماء ، وانكسر نظام حظر التجول، فسارعت قوات الاحتلال بزجّ المئات من المدرعات والدوريات والمجنزرات ، وامتلأت الساحات والأزقة بالخوذات وطوفان الرصاص الحاقد والقنابل الخانقة ، ولوّحت الطائرات في السماء، وبقيت الأراضي الفلسطينية حتى الهزيع الأخير تعلن وفاءها للرجل الذي أمضى عمره مناضلاً من أجل فلسطين حتى أصبح رمزاً لنضال الشعب وطموحاته المشروعة .
ولعل انتقال هذه الهبّة إلى المعتقلات الصهيونية التي تضمّ بين قيودها ثمانية آلاف معتقل دليل على حيوية هذا الشعب الفلسطيني ، وأن عافيته ولياقته باقيتان نافذتان. وبالتأكيد فإن هذه الليلة لم تكن استفتاءً وإجْماعاً على شخص الرئيس فحسب، بل كانت ردّاً حاسماً على أمريكا وإسرائيل اللتين اعتبرتا أبا عمار غير مقبول أو أنه انتهى.
لقد أثبت الشعب الفلسطيني أن الذي يحمي المصالح الفلسطينية ويحفظ الحقوق الفلسطينية هم الفلسطينيون . كما أثبتت هذه الليلة صحة الانتفاضة الشعبية غير العسكرية وجدواها. وأنها رد على كل أشكال الاذلال والقمع والتجويع التي لن تؤدي إلا الى الانفجار. كما أن تجدد هذه الهبّة في الأيام التالية، واتساع رقعتها يؤكدان للاحتلال أن الشعب الفلسطيني مُصرٌ على نيل حقوقه مهما طال الزمن، وأنه لا مجال أمامه هنا، سوى الانسحاب الكامل، كما أن هذه الهبّة تحذير حاسم للاحتلال لكي يرعوى ويبتعد عن المساس بشخص الرئيس والقيادة ، حتى لا تغرق الأرض بدوّامة لا تنتهي من الدم والعنف والخراب.
إن الشعب الفلسطيني يدرك، بخبرته الطويلة وبإحساسه العميق، أن حصار ياسر عرفات يعني أنه ما يزال يحفظ الأمانة الوطنية، وما زال يرفض الخنوع والاستسلام، لهذا على الشعب أن يسانده ويدعمه بدمه ودمعه وحناجره.
وبالتأكيد فإن هذه الهبّة قد أمدّت المحاصرين والشعب الفلسطيني بدفقات معنوية عالية، وكانت رافعة جديدة اجترحها الشعب ، الذي يخلق أشكال التعبير غير المتوقّعة ليوصل رأيه الواضح إلى كل الجهات.
وقد اكتشفنا خلال تلك الليلة أن كلّ ما قيل حول صفقات .. لا يمكن أن يكون مدعاة للأنكسار ، بل نعتقد أن هذه الهبّة ستحصّن القيادة ، وستحول دون عقد أية صفقة في غير صالح القضية والشعب ،لأن عقد أي صفقة سلبية سيكون شكلاً من أشكال الانتحار السياسي وعامل إحباط ينعكس سلباً على الناس وتضحياتها ، واستعدادها الدائم للمواجهة.