الضوابط الأخلاقية
تمهيد:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، وقال: "ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ" فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام" ثم قال: "ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلّ" حتى فعل ذلك ثلاث مرات.
فقال الرجل: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا"[1].
لقد صلى الرجل ثلاث مرات.
وفي كل مرة يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنك لم تصل".
وهذا يعني أن الإنسان ربما يقوم بالعمل، ويبذل فيه الجهد، ومع ذلك لا تكون له جدوى، لأنه لم يثمر الآثار المرجوة منه. بسبب عدم استكماله الصفات المطلوبة فيه.
ولهذا فقد وضع المنهج الإسلامي ضوابط للعمل حتى يكون صحيحًا مقبولًا.
ونحن نتحدث عن هذه الضوابط فيما يخص النظام الخلقي، كي تكون مقاييس بين يدي القارئ يقيس بها أعماله رجاء قبولها عند الله سبحانه.
1- التطابق بين القول والعمل:
لم يحدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يومًا شيئًا، ثم فعل خلافه، فقد كان التوافق تامًا بين قوله وفعله، قبل الرسالة وبعدها، في مكة، وفي المدينة، ولو حدث شيء من هذا لكان حجة لأعدائه يتمسكون بها..
ولكن هذا لم يحدث.
ومع مطلع المرحلة المدنية من حياة المسلمين جاءت الآيات الكريمة لتبني في الصحابة هذا الخلق الكريم.
فقد سأل بعض الصحابة عن أحب الأعمال إلى الله، وقالوا: وددنا لو أن الله أخبرنا.. لعملنا، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه الجهاد، فكره بعضهم ذلك، فجاءهم العتاب الشديد في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾[2].
وجاءت التربية القرآنية بهذا في مكة على لسان شعيب عليه السلام، عندما قال: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾[3].
يقول لقومه: ليس من شأني أن أنهاكم عن الشيء ثم أفعله. فهذه الصفة السيئة ما كان للأنبياء عليهم السلام أن يتصفوا بها.
وقد ذم الله تعالى الشعراء، وذكر من جملة أسباب الذم ﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾[4].
وعدم التطابق بين القول والفعل، هو السلوك الذين تميز به المنافقون. وقد قال الله تعالى في شأنهم:
﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾[5].
وهكذا يكذبهم الله، لا يكذب قولهم ﴿ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ وإنما يكذبهم بعدم توافق قولهم مع فعلهم وسلوكهم، من جانب، وبعدم تطابق قولهم مع نيتهم وهو خلل آخر.
إن التطابق بين القول والعمل هو المعلم الأول من معالم صحة العمل.
2 - القصد (النية):
والضابط الثاني لسلامة العمل، هو مطابقة "القول والفعل" للنية. وهو ما نتحدث عنه في الفصل التالي تحت عنوان "الإخلاص".
3- التوافق مع خط "الأسوة":
كان الضابط الأول الصحة العمل: التطابق بين القول والفعل.
وكان الضابط الثاني: تطابقهما (القول والفعل) مع النية.
فهل يكتفي بهما؟
والجواب: إنه لا بد من تحقق ضابط ثالث. وهو أن يكون العمل برمته (قولًا وفعلًا ونية) متساوقًا مع خط المنهج أو خط الأسوة.
وقد سبق لنا الحديث عن هذا الجانب في الفصل الأول من هذا المقصد، عندما قلنا: إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم هي المقياس الذي تقاس به الأخلاق للتأكد من سلامتها.
وقلنا: إنه لا بد من المقياس حتى لا نقع في الخلل.
وقد أكد القرآن هذا الأمر فقال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾[6].
إنه صلى الله عليه وسلم القدوة. والقدوة يقتفى أثره.
فلا بد للعمل حتى يكون صالحًا أن يكون على خط الأسوة واقتفاء الأثر.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما تعنيه الآية الكريمة بقوله:
"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"[7].
والمثال على ذلك: ما سبق ذكره في "التمهيد" من حديث المسيء صلاته.
فهذا الصحابي، دخل المسجد، ثم صلى..
وكان قوله وفعله مطابقًا لنيته.
ولكن "القول والفعل والنية" لم تتساوق مع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الصلاة حيث قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"[8].
فقال له صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ".
إن فقدان التأسي والاتباع، جعل العمل باطلًا.
الخلاصة:
لا بد في العمل الأخلاقي حتى يوصف بالحسن - وكذلك كل عمل[9] - من توفر ثلاثة أمور:
• لا بد أن يكون العمل - قولًا كان أو فعلًا - مما يوصف بالحسن.
• ولا يكفي أن يوصف ظاهره بالحسن، فلا بد أن يكون الباعث عليه (أي النية) حسنًا ومتوافقًا مع ظاهره.
• ولا يكفي حسن العمل وحسن نيته، بل لا بد أن يكون متوافقًا مع المنهج.
[1] أخرجه الستة ورقمه عند البخاري (793)، وعند مسلم (397) واللفظ له.
[2] سورة الصف، الآيتان (2 - 3).
[3] سورة هود، الآية (88).
[4] سورة الشعراء، الآية (226).
[5] سورة المنافقون، الآية (1).
[6] سورة الأحزاب، الآية (21).
[7] متفق عليه (خ 2697، م 1718) واللفظ لمسلم.
[8] أخرجه البخاري برقم (631).
[9] ليست هذه الضوابط خاصة بالأخلاق، بل هي من خواص المنهج الإسلامي، ولذا فهي ضوابط في جميع الأنظمة المنبثقة عنه.
وقد سبق للمؤلف أن طبقها حين تحدث عن "الظاهرة الجمالية في الإسلام".
وانظر - إن شئت - كتاب الظاهرة الجمالية في الإسلام ص (205 - 238). وكتاب التربية الجمالية في الإسلام ص (159 - 168) وكلاهما من طبع المكتب الإسلامي.
-
المقاصد الأخلاقية من ضوابط الاستثمار في السنة النبوية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
-
أرجوزة الضوابط الكلية في نظم العوامل الجرجانية لأحمد بن سيبويه الحنبلي(مقالة - حضارة الكلمة)
-
الضوابط الشرعية لفهم نصوص الشريعة(مادة مرئية - موقع الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل)
-
ورقة علمية في ضوابط العمل بالحرم(مقالة - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
-
الضوابط العامة في طلب العلم(استشارة - الاستشارات)
-
مخطوطة الضوابط الجلية في الأسانيد العلية(مخطوط - مكتبة الألوكة)
-
تأصيل علم الضوابط الفقهية وتطبيقاته عند الحنابلة (WORD)(كتاب - موقع أ.د.عبدالله بن مبارك آل سيف)
-
الضوابط الفقهية المتعلقة بالاستحقاق والتصرف والانتقال في الملك(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
-
الضوابط الفقهية للنظر في المستجدات والنوازل المعاصرة(مقالة - آفاق الشريعة)
-
تأصيل علم الضوابط العقدية وتطبيقاته في كتب العقيدة (1) (WORD)(كتاب - موقع أ.د.عبدالله بن مبارك آل سيف)