حصاد المنطقة في الخريف

1480709737124124.JPG
حجم الخط

 

في شرقنا العربي، تأخر موسم الحصاد لهذا العام، من فصل الصيف إلى فصل الخريف. لكننا في حصاد هذا الموسم، كما في مواسم حصاد كثيرة سابقة، لسنا نحن الحصّادين. نحن المحصودون.
التقى الحصادون يوم الاربعاء، أمس الأول في سوتشي، على البحر الاسود، (ولكل بحر من اسمه نصيب !!). اجتمع الحصادّون الثلاثة: الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين؛ والرئيس الإيراني، حسن روحاني؛ والرئيس التركي، طيب رجب اردوغان. اجتمعوا بصفاتهم الحقيقية، وإن كانت مُضْمرة: قيصر روسيا، وكسرى بلاد الفرس، وسلطان الباب العالي العثماني. وعلى مائدة الغداء/المفاوضات كان الطبق الرئيسي خريطة سوريا وشعبها العربي، وربما كان طبق التحلية خريطة العراق وشعبه العربي، وربما، ايضا، كان فنجان القهوة المساعد على هضم هذه الوجبة الدسمة بشكل خاص، اقليم كردستان العراق، والمناطق الكردية في شمال غرب سوريا.
العرب والاكراد كانوا، مع غيرهم، وعلى مدى خمسة قرون متواصلة، ضحايا الامبراطورية العثمانية وتخلف سلاطينها واداراتها العسكرية والمدنية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية. واستمر العرب والاكراد في مواقعهم كضحية مع ومنذ انهيار الامبراطورية العثمانية:
ـ الاكراد: بسبب حظهم الجغرافي العاثر، حيث لا يُطِلُّ وطنهم على بحر او محيط، وحيث تمنع جميع دول الجوار، (الفرس والترك والعرب)، وصولهم إلى البحار والمحيطات، والانطلاق منها إلى العالم الفسيح ومدارسه وعلومه ومصانعه. وبسبب عجزهم عن توفير قوة ذاتية، او تأمين تحالفات، تعينهم على كسر الطوق والتواصل مع العالم والعصر.
ـ والعرب: بسبب حظهم الجغرافي العاثر، حيث يُطِلُّ وطنهم على بحار ومحيطات كثيرة: البحرالذي سمي باسمهم، «بحر العرب»، والبحر الاحمر كاملا، عند مدخليه: باب المندب وقناة السويس، وعلى شاطئيه ايضا، والبحر الابيض المتوسط، (وليس لكل بحر من اسمه نصيب لجميع اصحاب شواطئه)، والمحيط الاطلسي، والمحيط الهندي ايضا. الا ان كل هذه النِّعَم فشلت في اعتماد سياسة تضمن تأمين قوة وكفاءات لحمايتها من الطامعين، ذلك ان جميع قياداتهم، (باستثناء حقبة الزعيم المصري العربي جمال عبد الناصر، ولعل قصة الباخرة المصرية «كليوباترا» التي رفض ميناء نيويورك خدمتها، وجاء الرد العربي على ذلك باغلاق جميع موانئ العالم العربي في وجه البواخر الأمريكية، وكانت النتيجة رضوخ أمريكا، هي اوضح مثال على ذلك)، من ملوك ورؤساء وامراء وأئمة، ومن شيوخ في «محميّات» متحاربة غالبا، ومتصالحة احيانا، وضعت مصالحها الشخصية والعائلية الضيقة، على رأس قمة اهتماماتها، فوق المصالح الوطنية والقومية. لقد استعبدت شعوبها وابعدتها عن امكانية للتعلم والتطوير ومماشاة روح العصر. هؤلاء الحاكمون جميعا اصبحوا رؤساء لدول تم استقلالها بفضل انتهاء عصر الاستعمار المباشر، الذي فتح باب عصر الاستعمار عن بُعد، حتى قبل عصر «الريموت كونترول». تم ذلك وتثبت بفضل ما رسّخه ذلك الاستعمار الاول من تخلف، وما اثاره ورسّخه من خلافات بين ملوك ورؤساء وشيوخ من خلافات وصراعات. وهكذا تحولت نعمة الانفتاح العربي على البحور والمحيطات، وبسبب عجز الحاكمين عن حمايتها، إلى شواطئ تغري القوى المعادية إلى غزوها وفرض هيمنتها عليها، والتحكم في واقعها ورسم مستقبلها، لما فيه مصلحة الغازي البريطاني او الفرنسي او الايطالي حتى. و«زاد الطين بلّة»، انكشاف نعمة/نقمة البترول، (وقد اصاب من اسماه «الذهب الاسود»)، حيث اصبح الوطن العربي، وخاصة منطقة الجزيرة العربية، مساحة مرغوبة ومشتهاة، فتمّ ونجح التخطيط للهيمنة عليها من خلال ادوات و»عائلات مالكة»، لا تملك الا الفتات الذي يشبع بعضا من غرائزها.
احتياجات حماية هذا الموقع الجغرافي الذي يتوسط العالم، إلى قيادات تعرف التاريخ، وتعيش الحاضر، وتنظر إلى المستقبل، لا قيادات تعرف التاريخ مشوها، وتعيش أوهام ما تعتقده تاريخا، وتعمل على اعادة البشرية إلى تلك القرون الساحقة القدم، وليس المبادرة، (او المساهمة على الاقل)، إلى ما تتطلع البشرية إلى انجازه من تقدم، والنظر بعين الواقع الذي يركّز على المستقبل على كل صعيد، وليس اصعدة العلوم والصناعات فقط، بل على صعيد القيم والاخلاق وقواعد الحياة والتصرف.
هكذا تلتقي الأُمّتان، الكردية والعربية، عند نقطة العجز: عجز الاكراد عن كسر الحصار، وعجز العرب عن حماية شواطئهم الممتدة على آلاف الكيلومترات، وحماية آبار نفطفهم البالغة الغنى.
هذه الصورة القاتمة التي نشاهدها في ايامنا الحالية، تعيد إلى الذهن صورة اجتماعات القوى والدول المنتصرة مع نهاية كل واحدة من الحربين العالميتين: قطّعت الأولى اوصال بلاد الشام، ورسخت الانتداب/الاستعمار البريطاني لفلسطين، استعدادا للوفاء بوعد بلفور؛ ورسخت الثانية الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين، واستفادت دول الغرب من المجازر النازية الرهيبة التي طالت ملايين اليهود في اوروبا، وملايين كثيرة اخرى من شعوب العالم في اوروبا خاصة، وفي العالم اجمع، لتحويل الوعد لليهود ثم الوجود اليهودي إلى دولة وسيادة.
غاب العرب، كل العرب، عن رسم الخريطة السياسية للدولة السورية. قيصر روسيا وكسرى الفرس والسلطان العثماني هم من يقررون مستقبل سوريا وشعبها. وهم الذين يتوجب علينا تقديم آيات الشكر والعرفان لهم لأنهم تكرّموا بالحفاظ على سوريا موحدة، ارضا وشعبا. الا ان الوحدة والتوحّد بقرار اجنبي، لا تختلف ابدا عن التمزيق والتقطيع بقرار اجنبي. هكذا كان في الماضي. وهكذا هو الحال في الحاضر. وهكذا هو الامر في المستقبل.
من يملك كل هذه الشواطئ على البحار والمحيطات ويعجز عن حمايتها، ومن يملك هذه الكميات المهولة من النفط والغاز ولا يستطيع التقرير بشأنها، لا يمتلكها فعلا، حتى ولو رضي له الحاكمون الفعليون ان يضع على ساريات موانئها وآبارها اعلاما وبيارق بلون الدم وختم عليها آيات تُكبِّر الله، وتحرص على تأكيد وحدانيته.
اثبت الرئيس الروسي بوتين حتى الآن، انه اللاعب الأكثر كفاءة على الساحة الدولية: ضمن لروسيا وجودا راسخا في المياه الدافئة للبحر الابيض المتوسط. وضمن لها ايضا قاعدة جوية تغطي اجواء كل غرب آسيا وشمال افريقيا. ونجح في استقطاب تركيا وابعادها عن أمريكا، والمبادرة إلى تزويد تركيا بصواريخ إس إس 400 المتطورة، ليبدأ بذلك في استدراج خروجها من حلف شمال الاطلسي (الناتو)، الذي يشكل الخطر الاكبر على المصالح الروسية. ونجح في استيعاب واستقطاب إيران، التي كانت على حافة الهزيمة في حربها في سوريا وعليها، عندما وفّر لقواتها وميليشياتها في سوريا غطاء جويا، وقوة ردع جوية. كل هذه المكاسب الكبيرة احرزها بوتين دون تكلفة مالية كبيرة، ودون تضحيات بشرية تذكر.
لم يكن غريبا، في ظل هذه الاجواء، ان يصرح بوتين اثر لقائه الرئيس السوري بشار الاسد، في مطلع الاسبوع، انه «حان الوقت للانتقال إلى العملية السياسية»، بمعنى انتهاء موسم الحراثة والبِذار والري والعناية، ليبدأ موسم الحصاد وجني المحاصيل.
اما في القمة المذكورة التي عقدها بوتين مع شريكيه، روحاني واردوغان، فقد يكون تصريحه الذي شدد فيه على «ان التسوية تفترض تقديم تنازلات من كل الاطراف، بما في ذلك الحكومة السورية»، هو الفقرة الأهم، نظرا لما يحويه التصريح من اشارة إلى إيران وتركيا، بضرورة الاستعداد لتقليصٍ ما في طموحاتهم، والى الاعتراف بان ملك الطاولة وسيدها هو سيد الكرملين، ولا فائدة في التردد في تنفيذ ارادته. 
عن القدس العربي