تعتبر السيطرة على المجتمعات، أو بعبارة أخرى المحافظة عليها ساكنةً، من الأهداف الرئيسية التي تسعى جميع الدول إلى تحقيقها.
وفي حين تختلف الدول في السياسة التي تتبعها لتحقيق هذا الهدف، فإن هناك نمطاً عاماً تشترك فيه الدول السلطوية في تحقيق حالة السكون هذه، وذلك من خلال تقييد الحريات، وفرض رقابة صارمة على أنماط توليد المعرفة وتناقل المعلومات المتاحة للمواطنين أي -بعبارة أخرى- عن طريق القمع والتوجيه المركزي.
وعندما كان ينظر إلى الإنترنت من قِبل الليبراليين ودعاة حقوق الإنسان على أنها أداة تحرّر تعمل على تشجيع التحول إلى الديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، فإن الأنظمة السلطوية نظرت إليها على أنها مصدر تهديد من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار.
ربما ما زال من المبكر الحكم على الإنترنت فيما يتعلق بمسألة دورها في التحول الديمقراطي.
فحتى الآن لا توجد أدلة كافية تثبت أن حجم الوصول إلى الإنترنت من قِبل المواطنين من شأنه أن يعزز التوجهات الديمقراطية لحكوماتهم، وهو ما يدفع البعض للتنبؤ بأن مصير الإنترنت فيما يخص فرضية التحول الديمقراطي هذه ستواجه مصير الفرضيات الليبرالية السابقة التي راهنت على أن النمو الاقتصادي لبلد ما -كالصين مثلاً- من شأنه أن يعزز فرص التحول إلى النظام الديمقراطي.
في نهاية المطاف استطاعت الصين تحقيق طفرة اقتصادية عملاقة حتى احتلت المرتبة الثانية في سلم الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة في الوقت الذي حافظت فيه على نظامها الشمولي.
أما وجهة النظر التي تتبناها على الأغلب الأنظمة الشمولية ومؤيدوهم والتي تعتبر أن شبكة الإنترنت ومن خلال طبيعتها التواصلية - اللامركزية من شأنها أن تزعزع الأمن، وإشاعة حالة من عدم الاستقرار، فإن لها شواهد تدعمها.
يكفي النظر مؤخراً إلى الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك في الثورات التي اندلعت في العالم العربي مطلع عام 2011 وعرفت باسم "الربيع العربي"، أو النظر إلى المقاتلين السيبرانيين (Cyber-guerillas) في زيمبابوي الذين استطاعوا أن يتحدَّوا نظام موغابي ويفرضوا رويايتهم المخالفة للرواية الحكومية.
لقد مكّنت شبكة الإنترنت الناشطين من امتلاك بعض الأدوات الذكية التي جعلتهم قادرين على التفلت من القبضة الحكومية على وسائل الإعلام التقليدية.
فعندما عمدت السلطات الحاكمة إلى إغلاق بعض الفضائيات المعارضة لها أو حتى تلك التي تنقل الأخبار بشكل محايد وذلك للحد من مستوى التظاهرات، عمد النشطاء إلى استخدام أجهزتهم المحمولة الموصولة بالإنترنت لنقل المشاهد بشكل مباشر وهو الأمر الذي أضفى زخماً على التظاهرات وجعلها غير خاضعة للسيطرة.
بشكل عام تعتمد طريقة تعاطي النظام السياسي في بلد ما مع أدوات التكنولوجيا الحديثة على عاملين رئيسيين؛ أولاً، طبيعة النظام، وثانياً، طبيعة الأداة التكنولوجية ذاتها من حيث الفائدة والمحتوى.
فالأنظمة الليبرالية - الديمقراطية ترغب دوماً بالانفتاح على الأدوات التكنولوجية الحديثة في وسائل الاتصال وذلك لإيمانها بالفائدة النهائية المتحصلة منها تجاه تعزيز اقتصادياتها والإسهام في دعم عمليات التنمية المستدامة وسبل الازدهار.
بينما تسعى الأنظمة الشمولية ذات الاقتصاد المغلق دوماً إلى تبنّي أدوات الاتصال الحديثة التي توفر قدرة أكبر على مراقبة المحتوى والسيطرة على البيانات.
ولذلك لا نستغرب أن الأنظمة الماركسية الشمولية -على سبيل المثال- كانت تفضل وسائل التلفزة على وسائل الهاتف، وذلك لأن قابلية الأولى لمراقبة المحتوى أكثر من الثانية والتي تفضلها في الغالب الأنظمة غير الماركسية ذات المجتمعات المنفتحة.
في هذا السياق، فقد فرضت الإنترنت بطبيعتها ذات الأبعاد المتعددة تحدياً كبيراً أمام الأنظمة الديكتاتورية، فالشبكة التي بدأت بالأساس لأغراض عسكرية بحتة تحولت مع مرور الوقت لتكون البنية التحتية الأهم للتجارة الدولية؛ حيث "باتت تربط بين سلاسل توريد المنتجات على مستوى العالم، وتؤدي مجموعة متنوعة من المعاملات، وتوفر وسيلة جذابة للتسويق والدعاية، وتقوم مقام بنك للبيانات التجارية والمالية".
باختصار، أصبحت شبكة الإنترنت عصب الاقتصاد في الوقت الراهن، الأمر الذي وضع الأنظمة الديكتاتورية أمام معضلة حقيقية؛ فمن ناحية يمكن أن تؤدي سياسة الحد من الوصول إلى الإنترنت إلى إضعاف الاقتصاد الوطني، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام نمو حالة من السخط العام، ويهيئ الأرضية للتمرد الشعبي، بينما قد تسمح حرية الوصول إليها -من ناحية أخرى- بتعريض استقرار هذه الأنظمة للخطر من خلال امتلاك المعارضين لأدوات تتحدى الرواية الحكومية.
وعليه، يمكن وضع ثلاثة نماذج عامة تتبناها الأنظمة الديكتاتورية على اختلاف طبيعتها للتعاطي مع معضلة شبكة الإنترنت: أولاً: نموذج منع الوصول. وثانياً: نموذج الحد من الوصول ومراقبة المحتوى. وثالثاً: نموذج الوصول النسبي الحر ومراقبة المحتوى.
تتبنى الأنظمة في كل من كوريا الشمالية وجمهورية لاوس -على سبيل المثال النموذج الأول المتعلق بمنع الوصول- إلا على نقاط محدود جداً- إلى شبكة الإنترنت.
يشترك البلدان في كون نظامها السياسي قائماً على الأيديولوجيا الشيوعية وفق مبدأ الحزب الواحد، ولذلك فهي تفرض صرامة مطلقة على المجتمع وتحافظ على بيئة مغلقة غير متكاملة مع النظام الدولي.
ففي كوريا الشمالية تصل نسبة الوصول الشعبي للإنترنت من حدود الصفر حيث تقتصر على بعض آلاف من الأشخاص الذين يعملون لصالح الحكومة أو أولئك الذين يديرون أعمالاً تجارية لصالح بيونغ يانغ في الصين.
وهناك ما يقرب من 30 موقعاً إلكترونياً فقط تتبع كوريا الشمالية تنقسم بين تلك التي تمجد القائد الأعلى للبلاد على طريقة أصحاب البروباغندا (www.physorg.com/news6109.html)، وبين تلك التي تعكس ثقافة البلد وبعض مواقعه السياحية، وأطباق الطعام مثل cooks.org.kp. وتتميز هذه المواقع بأنها بدائية، وبطيئة التحميل، ورديئة من حيث الجودة والمحتوى.
بدلاً من منع الوصول إلى الإنترنت، اختارت أنظمة سياسة أخرى اتباع النموذج الثاني المتمثل بالحد من الوصول ومراقبة المحتوى.
يعتبر النظامان في كل من سوريا وميانمار مثلاً على ذلك، تتحكم الأنظمة ضمن هذا النموذج بمزود الإنترنت، ففي سوريا على سبيل المثال تعتبر جهتان تتبعان النظام المسؤولتين حصراً عن خدمة تزويد الإنترنت هما جمعية الحاسوب السورية، ومكتب البريد الوطني.
ويُمنح الحق في الوصول للإنترنت على وجه الخصوص للجهات الرسمية والمهنية (مثل المحامين والأطباء ورجال الأعمال) وأولئك الذين يمتلوك رصيداً عالياً من الولاء للنظام.
باختصار، تمثل الحكومة ضمن هذا النموذج الجهة الوحيدة التي تقرر من يملك الحق بالوصول إلى شبكة الإنترنت.
كما تفرض هذه الأنظمة رقابة صارمة على الإيميلات، حيث يعتبر الـHot Mail محظوراً وذلك لإجبار المستخدمين على سلوك خطوط التزويد الرقمية التابعة للحكومة فقط، والأكثر من ذلك أن جميع المحتوى السياسي المعارض للحكومة ضمن المواقع الإلكترونية غير مسموح به إطلاقاً.
أما النموذج الثالث فتفضله الدول التي تتمتع باقتصاديات قوية ومتعافية كالصين مثلاً.
فالصين تدرك حجم الأهمية التي توفرها الإنترنت لدعم اقتصادها الذي يعتمد بالأساس على التجارة والتصدير، ولذلك تلجأ إلى اعتماد مبدأ الوصول الحر نسبياً للإنترنت مع فرض رقابة على المحتوى.
فالصين تمتلك أكبر عدد من مستخدمي شبكة الإنترنت حول العالم بسقف يصل إلى ما يقرب من 450 مليون مستخدم.
ولكن لتدارُك الخطر الذي قد يمثله هذا الوصول النسبي على النظام تجاه تمكين معارضيه من أداة لتحدّي الرواية الحكومية خصوصاً مع تنامي قوة الطبقة الوسطى، فإن الصين تعتمد على منظومة معقدة ومتطورة من آليات الرقابة على محتوى الإنترنت حتى بات ينظر إلى هذه المنظمة على أنها الجدار العظيم الرقمي للصين (The Great Firewall of China).
إن إمكانيات الحكومة المالية الضخمة تسمح للصين بتطوير أنظمة الرقابة والتجسس هذه باستمرار، وتوظيف عشرات الآلاف من المختصين للعمل عليها.
ليس هذا فحسب، بل إنها تدفع أجراً لبعض الشركات الكبرى مثل "ياهوو" من أجل تزويدها بقدرات خاصة على رقابة المحتوى الرقمي.
كما أن الشركات العالمية لتزويد البيانات من أمثال "جوجل" و"مايكروسوفت" يجب أن ترضخ لمطالب السلطات الصينية بوضع آليات محددة للرقابة إذا ما أرادت أن تعمل ضمن الأراضي الصينية (يذكر هنا أن شركة جوجل قد انسحبت من السوق الصينية عام 2010 على أثر اتهام السلطات بعمليات قرصنة منظمة لخدمة الـGmail الذي يتبع بعض منظمات حقوق الإنسان العاملة في الصين).
فمثلا كلمات مثل "ديمقراطية"، "التيبت"، "استقلال تايوان" تعتبر من المحظورات ضمن المحركات الرقمية داخل الصين.
يتجه العالم لمزيد من التكامل والاعتماد المتبادل، وهذا يعني أن الأنظمة الديكتاتورية سوف تجد نفسها تحت وطأة متزايدة لمطالب الشعوب المتعلقة بتحسين مستوى المعيشة والعيش الكريم، الأمر الذي يضعها أمام تحدي الانفتاح على شبكة الإنترنت والتواصل الحر مع العالم الخارجي، وعندها ستقاس قدرة الحكومات على البقاء بقدرتها على المراقبة والتحكم بالمحتوى الرقمي والتكيف مع البرامج والاستخدامات المتجددة للإنترنت.
لقد كان نظام بن علي في تونس -على سبيل المثال- يشجع التونسيين في العام 2007 على اقتناء الحواسيب والوصول إلى الإنترنت، ولكنه لم يكن يعلم أن الأمر سينقلب عليه في نهاية المطاف.
بالنتيجة ستجد الشعوب نفسها أمام ذات المعضلة التي ستضعهم بين اختيار الازدهار الاقتصادي عن طريق الوصول الحر إلى شبكة الإنترنت وبين حرياتهم الشخصية التي ستخضع للرقابة الصارمة من قِبَل الحكومات.