نال الشاعر والكاتب الفلسطيني المتوكل طه جائزة احسان عباس للثقافة والابداع، الذي أُقيم في قاعة المنتدى بمتحف ياسر عرفات، بمدينة البيرة، بحضور رموز الثقافة والفكر والصحافة، والشخصيات الوطنية ومسؤولي المؤسسات الفلسطينية والمجتمع المدني، على اختلاف تخصصاتها،
وقال المتوكل في كلمته :"
لقد شهدنا لعبةَ المجزرة، ولمسنا التعاقدَ المسعورَ بين ولاياتِ الموت وكيانِ المذابح، وكان الحقُّ مزحةً وحشيّة ، ولم نحظَ بعُزلةٍ مجيدةٍ تُضيءُ زراعتَنا الروحيّة ، لأنّ الهواءَ الملغومَ فخّخته قوىً دموية وفاحشة.
وحُرِمنا من الفرح الذي يرتفع مثل السهام، فكانت بهجتُنا تسقطُ في عقولِ الجثث .. لكنَّ قلوبَنا لم تشعر بالملل .. لأنها تغذّت على النار! فَقُمنا بتخصيبِ مشهدِنا بِجَمالٍ مُقاوِمٍ جديد ، ليبدأ عهدُ الضوءِ السماويّ ..
وهيّأنا لصغارِنا نومَهم النقيَّ ، وأحَطْناهم بالأغاني المُشرقةٍ ، وكان لا بدّ لهذه المظلمةَ إلا أن تنتهيَ مثلَ الدخان.
ومَن لا يريد أن يرتعش عليه أن يخطو.
كان المطرُ عرقَنا ، ودمُنا هو القوة ، وألقينا أيدينا من السماءِ إلى الجحيم ، وحاربنا سَحرةَ النومِ ، والفنَّ المُضادَ ، وقلوبَ الموتى، ووقفنا أمامَ الذين يُؤدّون الحِيَلَ ويستمرؤن التطبيعَ المشبوهَ ، وأولئك الذين يتمتعون بجوّدةِ القسوة .
كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان ، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة ، وتجاوزنا مرايا الغموض ، التي لا يتألّق فيها أحد ، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.
لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة .. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة ، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى ، كان وما زال هو قوّةُ الحقيقية ، مثلما أردنا أن ننامَ ، فقط ، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين .. كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون .. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على عَرْشِها الأبديّ .
باختصار ؛ كانت لدينا قصتُنا القاسيةَ الرائعة ، ويكفي أننا انتصرنا على مَن كان ينظر إلينا كأنه ينظرُ إلى خطيئته.. ذاك أنّ عينيه مليئتان بالسُّمِ والهجران، واستطعنا أن نتخلّص من النهايةِ الخائبةِ بعسلِ التَجذُّرِ والرِباطِ الشريف ، وأن نُعلي صورتَنا النجميّةَ في كرنفالِ الانتفاضةِ الفذّة ، التي استطاعت أن تجمع البدرَ ليكتمل .. ويصلحَ للطقوسِ الأخيرة .. لكنهم اعترضوا الأغنيةَ التي صدحت في قلوبنا، وأرادوا من التاريخ أن يسجّل أسماءَهم على صفحاتٍ لم يمهورها بوقودِ أولادِهم أو بخيالِهم غيرِ المتوازن ، لهذا كلِّه كان هذا الكتاب " أيام خارج الزمن " ، الذي أردتُ أن أنتصرَ فيه لتجربةِ الأرضِ المحتلة ،التي فاضت بحركةٍ وطنية ؛ قوامُها الأسرى والمحرّرون والحركةُ الطلابية والنقاباتُ والاتحاداتُ والحركةُ النسوية والفعلُ المستحيلُ على الأرض.. وقلتُ فيه ما لم يقلْهُ أحد ، وفيه من الأسرارِ ما يبعثُ القشعريرةَ في الحديد .
لم يأتِ أحدٌ ليجدَ أرضنا صِفراً، بل لديها إرثٌ باذخٌ ، لم يتخثّر نُعمانُه ، كصحنِ الجمر وبراعمِ الدمِ وسخونةِ البرق .. لم نكن قطيعاً أو هائمين على السّراب ، بل كانت لدينا حضارة تتجلّى فيها النجوم ويتصادى فيها الإبداع الخلّاق الشامل ، فكان الساحل منارة للأُمم ، مثلما كانت جبالنا أعراساً للطيور .
وقصدتُ ، في هذا الكتاب ، أن أُساهمَ في تأصيلِ روايتِنا ، لتصبحَ سبيكةً قادرةً على المواجهةِ ، وحفظِ الذاكرة في المدارِك ، وطردِ العدمية .
الأخوات والأخوة ؛
أراني ممتلئاً بالغبطةِ والفرحِ التاريخي .. أن اسميَ المتواضعَ ارتبط باسمِ إحسان عباس ، أبُ الثقافةِ الفلسطينية المعاصرة ، الذي فَرد جناحيه الذهبيين على فراخِ الاجتراحِ والتحقيقِ والبحثِ ، وملأ جيوبَنا بالكلماتِ الأنيقة الشجاعة.
ويكفينا شرفاً ، هذه الليلة ، أننا في فضاء ومتحف ياسر عرفات ، والدُ الوطنية الفلسطينية ، وصاحبُ الليالي النهارية من عيلبون الى الكرامة إلى الحصار ، الطاهرُ التطهريُّ ، أسطورةُ الناس ، المخذولُ بحضورهِ الرنّان ، الجريءُ كالموسيقى ، كبشُ فلسطين المكحّل ، مَن كان في فمِه صوتُ البحر ودمُ الشهداء وحبَقُ المخيم ونداءاتُ القدس .
ولكم ، أيها الأخوة والأخوات ؛ كلّ شكري الجميل الموصول في أُمسيةِ الزنجبيل هذه ، التي وضعتْ يدَ اللهِ على كَتفي .
كما أرجو أن يصل امتناني وعرفاني إلى الأساتذة رئيس وأعضاء مجلس الأمناء الأفاضل الأجلّاء ، وإلى لجنة الجائزة الأعزاء، وإلى دار فضاءات الموقرة ، مع شكري الأكيد إلى ملتقى فلسطين الثقافي رئيساً وأعضاءَ ولوزارة الثقافة .. على كلِّ جهودهم المبدعة ، وإلى كلّ مَن استعرض كتابنا وأشار إليه وخاصة الصديق معن البياري .
الأخوة وألأخوات :
أُكرّر شكري لكلّ المثقفين أصدقائي المبدعين ، الذين يضيئون ليلَ فلسطين بقناديل قلوبهم الجسورة ، وأشكر الأحبّة أخوتي الصحفيين والإعلاميين حُرّاس الحقيقة .. واسمحوا لي أن أشكر أُسرتي وشريكة عمري التي تحمّلتني .. رغم أن الرجالَ أخطاءٌ تقترِفُها النساء .. وأقول لكم ما قاله كونديرا : إنّ أكبرَ مصيبةٍ ممكن أن تحلَّ بالرجلِ هي الزواجُ السعيد .. بحيث لا يعود له أملٌ في الطلاق .. ومع هذا .. شكراً لشريكتي التي وحدَها تستحقّ ، بدلاً منّي ، هذه الجائزة .
وإذا كان لأحدٍ أن يستحقّ منّا كلَّ شيء : فهي فلسطين الخالدة الولود المُوحية المُلهمة المباركة الجنّة الصابرة المثابرة العصيّة الحُرّة رغم عبيدِ التاريخ ولعنةِ السيدةِ العمياء ، العدالةِ الغائبة .. وكلّ الانتماء لأهلِ فلسطين الذين يقبضون على جمرة الثابت ، ولا يتوقّفون عن الحياة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.