القدسُ آخرُ ما تلفّظَت الأعالي،
فوقَ رايةِ أرضنا؛
هي سندسُ الزيتونِ
أجنحةُ الحَمامِ
ولمْعَةُ الشريانِ
أو كُحْلُ الصَّبيةِ
لم تُصِبْ من عمرها إلا البُكاءْ.
***
والقدسُ عينُ اللّهِ في الأرضِ الصغيرةِ،
أوّلُ الصلواتِ والآياتِ،
محرابُ البتولِ،
ونخلةُ الميلادِ،
معراجُ الأمينِ،
ومربطُ الفَرَسِ المُجَنَّحِ،
خُبزُنا البلديُّ،
زيتُ سراجِنا الكونيُّ،
أو رَقْصُ البلادِ،
وزفّةُ الأعراسِ في وَهَجِ الغناء.
***
جاؤوا إليها فاتحينَ مُسبّحينَ
وخلّفوا فيها الرواقَ أو المُصلّى أو خطوطَ النصرِ أو
تاجَ المُقَرْنَصَةِ المعقّدَ والقبابَ
أو السبيلَ أو المشافي والمدارسَ
والحصونَ
أو الأصابعَ فوقَ مرمرِها الشجيَّ
أو القصورَ أو السجونَ
أو القلاعَ أو القبورَ
أو القصائدَ والملامحَ والعيونَ
وما يُسجّلُهُ الحجيجُ
من العجائبِ والطقوسِ
وما رأَوْا في الخانِ والقَصَباتِ
من أثرِ الجنودِ،
وما يقولُ الناسُ أو ما يفعلونَ،
وما يبيعُ القادمونَ من النفائسِ والقلائدِ والنقودِ،
وكان أنْ حُرِقَتْ
وَزُلزِلت المدينةُ غيرَ مَحْرقَةٍ،
فماذا يصنعونْ؟
ولقد أعادوا مرّةً أخرى المدينةَ
مثلما كانت على كتفِ الثريّا،
أو كما تبدو الأميرةُ إيلياءْ.
***
والذئبُ جاء القدسَ
من غَبَشٍ سحيقِ ٍمن عيونِ الريحِ،
قال: أنا أجوعُ لهذهِ الأرضِ المقدّسةِ المليئةِ
بالقفيرِ وبالحليبِ،
وسوف أبني هيكلي فيها..
ووحدي مَنْ يكونُ هُنا.. هُنا
فَأنا الذي أعطى الإلهُ أباه هذي الأرضَ
وحدي مَنْ سيبقى
والبدائيون مَنْ مَرّوا عليها يرحلونَ
وإنْ أبَوْا، سيموتُ ما فيها لهم؛
من بقلةٍ أو نملةٍ أو نبعِ ماءْ.
فَلـْيرحلوا عنّا، فإنّا
لا نطيقُ لهم بيوتاً أو مروراً أو بقاء.
وَلـْيقطعوا حَبْلَ المشيمةِ في الصحارى،
نحن مَنْ يرثُ الخُطى وقلائدَ التينِ المجفَّفِ
والخوابي والجِرارَ وما يميسُ على السهوبِ من الشعير ِ
ومن قرونِ البامياءْ.
وأنا الذي ينفي الضحيةَ والمذابحَ،
وَحْدَنا مَنْ يملكُ الهولوكستَ والمنفى..
أنا الملكُ الوريثُ،
أُنقّحُ التوراةَ من حُبَّ الخلائق ِ
ملّتي، لا شيءَ للأغيارِ ..
إلاّ ما يُمكّنني الكمينُ من الرعاعِ،
أنا هنا المختارُ،
أَخْلُق ما أريدُ
بِرَنَّةِ التَّبْرِ المُرابيَ/
والمؤامرةِ/ البغايا/ والخطايا والثراءْ.
وحدي ؛ لديّ دمي المميّزُ،
لي عناقيدُ المراعي، والأفاعي ؛ بعضُ أُحجيتي ..
ولي حَسْمُ النهاياتِ السعيدة ِ
والشعوبُ لها كوابيسُ العناء.
***
القدسُ واحدةٌ لنا،
ولها نشيدُ الجُرْحِ، والكوفيةُ السمراءُ،
والعيدُ البعيدُ، وصورةُ المقلاعِ
واللونُ الذي رفعَ الحنينَ
إلى المجازْ!
فهناك في المنفى هي العنوانُ
في الثوبِ المطرّزِ بالحكايا
والزغاريدِ النبيهةِ والخرائطِ والدفاع ِعن المعاني،
والمعلّقةِ التي فهقتْ على الحيطانِ أو صدرِ الصَّبيّةِ،
في الهواتفِ والملاحفِ والمصاطبِ والحِساءْ.
وهنا، هي الرحمُ الخصيبُ، وما تبقّى من حكايتنا،
وما عقدوا عليه من النوايا في الصلاةِ أو الممات،
أو الدفاعِ عنِ السلامِ أو الحِمامِ،
أو الذهابِ إلى النجَاءْ.
وهي الشرارةُ والترابُ أو الغمامةُ والهواء،
هي الهيولا، والقيامةُ،
والصَّحاحُ من النّزول على النبيِّ
بعُزْلةِ الجبَلِ المُقدَّس أو حِراء.
وهي التي ربطوا بها قلبي
وحفّوا نهدَها بالهِندِباءْ.
هي زوجتي، أُختي، وأمّي وابنتي
أبتي وعمّي، خالتي، أهلي
وجيراني وأفراحي وسلطانُ الإباءْ
هي آيتي، عِرضي، حياتي
أصدقائي الأوفياءُ،
مدينتي بيتي، غدي، سندي، عمادي، زهرتي، لغتي
دموعي، قصّتي، أمسي، وأحلامي ،
كتابي، دُرّتي، زمني، عيوني، شمعتي ،
وجعي، شفائي، نظرتي، صوتي ،
غطائي، نوْمتي، صحوي
وخطوي والدواءُ وصرختي،
أملي، جدودي، شهقتي الأولى
وروحي، نجمتي، شُهُبي، عُروشي
نخلتي، تفاحتي، قمحي، وقافلةُ الرّواءْ..
القدسُ أزمانٌ على زمنٍ طويلٍ،
ثم يأتي آخَرٌ.. حتى تكونَ ذُرى ابنِ آدمَ في المدينةِ،
بعضُها يعلو على بعضٍ،
وأجْمَلُ ما يتوِّجُها السلامُ إذا
تخلّى الميّتونَ عنِ ادّعاءِ الادّعاءْ.
فهنا البهارُ وقهوةُ العربيِّ والآياتُ
والتاجُ المُرصّعُ بالسّناءْ.
وهُنا.. هُنا حريّةُ الإنسان ِ
طُهْرُ الطهرِ، ترنيمُ التجليّ والخفاءْ.
فبأيِّ شمسٍ نستنيرُ
بأيِّ ماءٍ نستجيرُ
ومَنْ يُصدّقُ أنَّ قُدْسَ اللهِ
يَحْكُمها عبيدُ المومياء؟!