تحسين يقين " قصص من زمن الخيول البيضاء "

 تحسين يقين " قصص من زمن الخيول البيضاء "
حجم الخط

قصص من زمن الخيول البيضاء: رسائل ابراهيم نصرالله التي مسرحها فتحي عبد الرحمن

 

 

ثمة إبداع في عناصر هذا العمل الفني يدفعنا للتأمل برسائله، بعد الاستمتاع الذهني والبصري في المشاهدة؛ حيث أن الاطمئنان الى الإتقان الفني يغري بالتفكير الذي د بدأ منذ بداية العرض؛ خصوصا أننا إزاء مخرج له هويته الفكرية والوطنية الناقدة باتجاه الفعل مصحوبا بشحنات كبيرة من الأمل.

 

بل لعلّ رائعة إبراهيم نصر الله نفسها هي البداية، والتي اكتسبت الخلود مرتين، مرة أدبا روائيا مكتوبا، وأخرى فنا مسرحيا على خشبة المسرح، بعد أن تعذر تقديمها مسلسلا ميلودراميا.

 

ولعل الخلود الأدبي والفني هنا خلود الفكرة، حيث أن المعنى الذي حدث بعمق إنساني يحمل معه بذور البقاء ما بقي الإنسان، حيث يعيد الزمان دوراته ودوائره وأحداثه التي سيكون دوما لها ردود فعل تذكر بما مضى، باتجاه فعل ما يجنبنا من السخرية، حين لا نضع استحقاقات البقاء الإنساني في البال والجوارح.

 

لكن ثمة استثناء هنا؛ فإذا قيل أن الزمان يدور مرتين، في الأولى تظهر التراجيديا، أما في الثانية فيظهر هزلا ساخرا، فإنني أزعم هنا أن الزمان الذي امتد من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً لعام النكبة, أي إنها تمتد لأكثر من 129 سنة من تاريخ فلسطين الحديث، وفقا للرواية، (المسرحية وقفت عند بداية الاحتلال الانجليزي لفلسطين) والذي أوصلنا إلى مأساة الاحتلال الانجليزي فالنكبة، قد عاد اليوم بعد كل هذه السنوات، ليكون تراجيديا مرة أخرى؛ فاستمرار المأساة ما الذي ستخلقه غير نفسها!

 

إن ما يحدث اليوم هو كذلك، ومن أجل ذلك تمثل المسرحية اليوم موقفا مسرحيا ووطنيا وفلسفيا باتجاه الاستنهاض، عبر نقد القيم التقليدية السائدة، كنتيجة لنظم الحكم التي تقمع الشعوب وتستولي على خيراتها تارة بالضرائب، وتارة بخلق ثقافة الاستهلالك لما لا يلزم في السوق والأفكار والفنون أيضا. لذلك يأتي فكر المقاومة هنا كمقاومة مشروعة ضمن هذه المنظومة: مقاومة الاحتلال، والتخلف، والاستسلام.

 

ولعل خاتمة المسرحية أكدت على ما ذهبنا إليه حين قال الثائر القديم على الأتراك والجديد على الانجليز:

 

أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي في المقاومة، وهي تذكرنا بالعبارة الكاملة الواردة في النص الأصلي: "أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي. لم يحدث أبداً أن ظلّت أمّة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئاً واحداً: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر الى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد".

 

وأزعم أن مسرحية "قصص من زمن الخيول البيضاء" تمثل ردا بليغا على ما نعيشه هنا، وليس فقط للحكم على ما عشناه قبل قرن وثلاثة عقود؛ فما الذي يمكن مثلا لكاتب أو خطيب حتى لشاعر أن يقول بكل صراحة عما يجري هنا من ظلم الاحتلال الذي ازدهرت في ظله ثقافة الخلاص الفردي للأفراد والنظم؛ فحين تصور المسرحية في سخرية كوميدية حال المخاتير المعينين من الحاكم التركي إزاء الشاب الذي استعاد فرسه الأصيلة من أيدي جباة الضرائب، ما الذي سيحضر في الذهن غير ما هو حاضر فعلا، متمثلا بما نعيشه هنا.

 

كأنه لم يتغير شيء في فلسطين من خلال رمزية قرية "الهادية"، سوى في الأشكال والأسماء: شعبنا بما فيه ومن به، بطبقاته الجديدة، وما استجد من قيادات سياسية واقتصادية وفكرية في الداخل والخارج، وما صنعت التحولات الاقتصادية المشوهة من إفقار الفقراء والمزارعين والعمال والموظفين الذين تم ترويضهم وتوريطهم في الاستهلالك، وتكدس الثروات في أيدي حفنة من البشر، في ظل نزاعات داخلية للزعامات الجديدة، في مقابل دولة احتلال عصرية، أخذت بأسباب العلم والديمقراطية والوحدة.

 

أظهرت المسرحية، كما الرواية، سوء نظم الحكم التقليدية المستبدة، التي تقمع الشعوب وتستولي على خيراتها؛ فهذا الوجيه (مثل دوره باقتدار الفنان حسين نخلة) يهيم حبا بالفرس الأصيلة، حبه بالفتاة التي يتزوجها جبرا، وهو حب لدرجة الجنون؛ حيث يتشرعن في لا وعيه أن ما ما حوله من بشر وممتلكات هي له، وهنا يبدع المخرج على خشبة المسرح من جهة، ومن خلال فيلم الفيديو المصاحب كيفية محاولة الترويض الأخيرة للعروس التي تشترط إتمام زواجها بترويض الزعيم لحصان "الأدهم"، حيث يصبح الرمز واضحا في اغتصاب الحكم، وترويض الشعب، والذي يؤول إلى نهايته الطبيعية: الانتحار، ولعل ما نشهده اليوم في بلادنا من اغتصاب سياسي ليشكل دلالة تستنهض المقاومة.

 

وكم كان جميلا بروز الدور النسويّ هنا، في رفض الاغتصاب ودلالته، والإيحاء بأن البلاد لها أهلها. ولعل التنوير هنا نهج لدى الكاتب والمخرج، فيما يخص المساواة ودور المرأة.

 

في الوقت الذي يعمق العرض المسرحي حق الشعوب بالوجود، فإنه يرسل إشارات ناقدة للعادات والتقاليد البالية، التي يرتهن في ظلها الإنسان للخلاص الغيبي كمخدر كفعل تعليق المطالب على شجرة الأمنيات، ظهر في ردود فعل المختار ورجل الدين، حيث يصبح التنوير شرطل للخلاص. كذلك ارتقى العرض بقيمة الإنسان ودوره في الحياة، شرط التحرر الداخلي، ومقاومة الشعور بالهزيمة داخليا.

 

فنيا، فإن مخرج العمل الأستاذ فتحي عبد الرحمن، كمخرج محترف، وككاتب أيضا، استطاع بذكاء درامي وكمسرحي مسرحة الرواية، عبر اختياره لما يشكل العمود الفقري للرواية، حيث عمد الى الاحداث الرئيسة، ناسجا منها عملا مسرحيا جادا، موظفا فيه بنجاح عددا من اللوحات الراقصة، التي أضفت بعدا حركيا وجماليا على المشاهد القبلية، وصاحبتها حتى النهاية. نذكر منها الرقصة التي تلت النصر، حين تمت استعادة الخيل. كذلك رقصة طلب الإنبات، وهي طقس قديم في الحضارات القديمة طلبا للمطر. ولعل تقديم 3 لوحات راقصة متتابعة، كان باتجاه جعل لوحة الرقص كلبنة في الدراما. ساهم في تلك الحيوية قصة الحب وقصة المطاردة البوليسية حيث أضفتا بعدا تشويقيا أيضا.

 

من ضمن ما وظفه فتحي عبد الرحمن شاشة العرض في عمق خشبة المسرح، لتكون مسرحا آخر بصريا، كعرض درامي، حيث أبدع المخرج في ربط المشاهد البصرية السينمائية التي نفذها الفنان كرم علي، والمشاهد التمثيلية على الخشبة. يبدأ التمثيل في فيلم الفيديو، ويتابعه على خشبة المسرح بانسيابية عالية أو العكس، يبدأ بالمسرح ويتابع بالشاشة. لقد منحنا ذلك فرصة مشاهدة ما لا يمكن مشاهدته على الخشبة، كمشاهد الخيل مثلا.

 

كنا نتابع إدارة المخرج للتمثيل والرقص، حيث يذكر له الاعتناء بالحركة على الخشبة بانسيابية، فكل حركة لها دور، ولعلها مغامرة تقديم جيش من الفنانين/ات: خمسة عشر ممثلاً وممثلة، وستة عشر راقصاً وراقصة. إحدى الرقصات اختلطت بالتمثيل في زواج المطارد، من خلال الحركة لا الكلام. لقد كان لقصة الحب أثر في تمتين الخيط الدرامي.

 

ولعل هناك من يتناول دور اللوحات الراقصة التي قدمتها فرقة "وشاح للرقص الشعبي" وهي فكرة وتصميم الفنان محمد عطا، حيث يمكن قراءة اللوحات جميعها كخيط حركي غنائي او قل كسيناريو بصري حركي غنائي مدهش.

 

انسجمت الموسيقى التي أعدها الفنان عبد الحليم أبو حلتم في جميع مراحلها في العرض مع حو المسرحية، إلى درجة عالية من الاحترافية خصوصا في ادخال الأصوات البيئية كأصوات الحيوانات.

 

لقد كان الفنانون جميعا روافع للمسرحية، بحبهم وانتمائهم للعمل، مما سهّل العمل لدى المخرج؛ لقد قدموا المشاعر المختلفة، من رثاء وتحد، وخوف، وتكبر. كذلك فإن أداء دور الضابط العثماني بنظري كان مميزا، لقد خلناه كذلك لغة وملابس وحركة. تعدد أداء الأدوار تم تقديمه بيسر كما في الفنانة ميساء الخطيب التي قدمت أكثر من دور. كل منهم/ن أدوا أدوارا فيها رشاقة: جميل السايح، رباح الكالوتي، محمد ابو عزيزة، محمود طمليه، مراد وديع، محمد زبيدي، عدي الجعبة، عبيدة صلاح، محمد مشارقة، لارا نصار، مرح ياسين، رزان الخطيب، عمر ابو عامر، حق علينا الاحتفاء بهم، كونهم ساهموا فنيا ووطنيا وإنسانيا في نجاح العرض. كذلك كان للراقصين/ات دور هام، يحتاج تبيانه لمقال خاص.

 

كان ديكور العرض متحركا وبسيطا، سهّل التغيير خلال المشاهد، كما كان أحيانا يشكل حالة درامية كما في مخاطبة أحد الابطال له، كدلالة ورمز.

 

لقد أبدع مصممو الأزياء، في اختيار أزياء للأغنياء والفقراء، للحكام الأتراك والفلاحين، بما أضفة المصداقية والواقعية التاريخية.

 

وحسنا فعل عبد الرحمن حين أدخل عدة مقاطع من مشاهد كوميدية خفف من خلالها الأثر العام لجو المسرحية الجاد، والملحمي على المشاهد..