قصص من "الخيول البيضاء" توليفة ابداعية...

قصص من "الخيول البيضاء" توليفة ابداعية...
حجم الخط

الكاتب: د.احمد قطامش

قصص من "الخيول البيضاء" توليفة ابداعية كسرت الترسيمات وشقت طريقا جديدة

 

تمهيد

 

بالتعاون بين فرقة وشاح والمسرح الشعبي شهد قصر رام الله الثقافي أمسية فنية ازدحمت فيها قاعة المسرح حتى الحنجرة. وكان الحشد فلسطينيا حقا جمع كل الطبقات الاجتماعية والأجيال، صبايا وشباب وأطفال وعوائل. جمهرة متنوعة جاءت لمشاهدة ما هو جديد، وأجابت عن سؤال قديم: الفن للنخبة أم للناس؟

 

من المؤكد أن بعض الحضور قد قرأ رواية الأديب والشاعر الفلسطيني اللامع ابراهيم نصر الله (الخيول البيضاء) ومن المتوقع أن كثيرين لا تربطهم صداقة بثقافة الكتب، ولكن من المقطوع به ان الجميع لا يعوزهم الشغف والقدرة على التذوق او مجرد استشعار الحاجة الانسانية للفن.

 

منذ نحو الفين وقرنين من السنين علم الاسكندر المقدوني الذي كانت جحافل جيوشه تجتاح بلاد العرب والفرس، ان معلمه الفيلسوف بلوطرخ قد نشر كتابا في الفلسفة، فكتب اليه يعاتبه لانه نشر للعامة ما هو للخاصة، فرد عليه بلوطرخ، لقد نشرناها ولم ننشرها ولن يفهم عليها الا من درس على ايدينا مثلك.

 

كان العلم والثقافة امتيازاً للشرائح العليا فهماً وهدفاً. أما اليوم فالناس يتلقون العلم على مقاعد الدراسة وأغلبهم يذهبون للجامعات. وحينما ينتج المثقف عملا في حقل الادب او الفن او الفكر ولا يفهمه الناس يفقد الكثير من قيمته. فالوصول لاوسع قاعدة بات المعيار الاساس في تقييم الابداع. ومن هنا جاءت كلمات بريخت (الفنان الطليعي يقف امام الجمهور ويمد يده له)، فالابداع ليس طلاسما ومستغلقات واحيانا لا يكون ابداعا حقيقيا وانما تهويمات ذاتية غير مفهومة الا لصاحبها او تعقيداً متكلفا للتغطية على فجاجته وفقره.

 

وفي الحالة الفلسطينية تتضاعف اهمية ان يكون الفن مفهوما وان يكون جامعا ذلك ان دينامية تفكيكية تنخر الشعب الفلسطيني في مرحلة اوسلو وما اسقطته عليه العولمة التذريرية، وبات في حكم الضرورة ايجاد قواسم وأهداف جامعة حامية للهوية والنسيج والحقوق. فالشعب امام امتحان الوجود.

 

لا ضفاف للابداع

 

كل التاريخ الانساني هو عملية ابداعية تراكمية، والمجتمعات الاكثر تطورا هي الاكثر ابداعية في مختلف الحقول. وحجز العقل وانتفاء المبادرات الابداعية انما يسلبان القدرة على تجاوز التخلف والصيغ القديمة، بينما الذي لا يواكب التطور، الذي يتسع لما هو ايجابي في الماضي، تفترسه انياب التطور فتستباح سيادته وثرواته وثقافته.

 

الذي لا ينتج علما تستبيحه عواصم العلم، والذي لا ينتج اقتصاداً يغدو تابعا ومنهوبا من الاحتكارات الاقتصادية المعولمة، والذي لا ينتج فنا تغزوه فنون الامم المنتجة للفن.

 

وحسبي هنا التنويه لسمتين ابداعيتين في عمل "قصص من زمن الخيول البيضاء: الاولى: تتمثل في بناء العمل الفني باسره على رواية فلسطينية هي قامة عالية تحتل مكانتها في الأدب الملحمي. بما يفتح الطريق لاعمال فنية مرجعيتها دوواين شعرية او لوحات كاريكا تورية. فهل لا تصلح حقا قصيدة درويش (بيروت) او قصيدة امل دنقل (لا تصالح) او رسومات الشهيد ناجي العلي او سواها متكئاً لاشتقاق لوحات فنية؟

 

لقد شقت فرقة وشاح والمسرح الشعبي درباً يمكن المضي فيه.

 

اما الزاوية الاخرى والتي كانت بصماتها دامغة على الامسية فهي المزج الخلاق بين التمثيل السنيمائي والعمل المسرحي والرقص الادائي. ثلاثة أجناس تكاملت وتعاضدت في بنية واحدة، ما كان لهذا العمل ان يرى النور لولا هذا المزج بما استوجبه من مهارات واعباء اخراجية.

 

لا مهرب من التجريب ولا مهرب من تحفيز الخيال لابتكار صيغ جديدة (وما ينفع الناس يمكث في الارض اما الزبد فيذهب جفاء) لم يكن صدفة ان يقتبس الطاهر وطار في روايته (اللاز) هذا المنطوق.

 

والمهم ان يلامس الخيال الواقع وان يبقى مشدداً للهوية (كحركة وحركية) ادونيس، فلا يصاب بالشيزفرينا، وان يبقى نبضه في مقولة التغيير. فالفن ليس للمتعة فقط وليس تعبيراً عن مشاعر ذاتية فقط، وإن كان يحوي هذا وذاك، وإنما يغوص في العمق، فهو أبعد من السطح واللحظي، يعالج قضايا المجتمع وتناقضاته، وبذلك يكون رافداً من روافد التغيير. وبلغة ماركس (له وظيفة اجتماعية) ذلك (ان الفلسفات القديمة قامت بتفسير الواقع بينما المطلوب تغييره) والذين يناوئون التغيير انما هم الشريحة المهيمنة من اسياد الكولونيالية والنهب والاستغلال الطبقي والبطريركية والعنصرية.

 

وان تبدأ الأمسية الفنية بحمحمة الخيل وعدوها الطليق انما تطّرز علامة ايجابية جاذبة للرائين/ات.

 

المباشرة السياسية

 

صحيح ان الفن ليس بيانا سياسيا والفنان ليس خطيبا في مهرجان او واعظا،ً فالفن يولي الشكل الجمالي اوسع المساحات، ودونه يفقد صفته. ورواية "الخيول البيضاء" اعقبت رواية "قناديل ملك الجليل" وهما تتعرضان لثورة وزمن ظاهر العمر الزيداني والحقبة العثمانية وصولا الى الاحتلال البريطاني لفلسطين وما صاحبه من غزو منظم مدروس توالد عنه تطهير عرقي للشعب الفلسطيني الذي اقتلع من وطنه.

 

فهما تحرثان في حقبة تاريخية انعطافية وزمن ملحمي، فجاءتا ادبا ملحميا بما يزكي كلمات هيجل عن علاقة الابداع بالاحداث الدرامية المكثفة.

 

والاكثر اثارة ان ثمة احاله على الحاضر. فهناك العديد من عناصر الامس تعيد انتاج نفسها اليوم. وبالفعل انها مهزلة ان يعاني جيلنا ما عاناه اجدادنا منذ قرنين ويزيد، بل ويكشف ذلك ان المقولات النهضوية لمحمد عبده والكواكبي والافغاني وشميل وسلامة موسى... لم تنفك تنتظر الحامل الاجتماعي الذي يقتحم الخارطة ويقلب الاوضاع. فمقولات فولتير وجان جاك روسو ومنتسكيو في فرنسا وجدت واوجدت حاملها القادر على قلب الطاولة في غضون عقدين وثلاثة من خلال الثورة الفرنسية 1789. اما ان تعاد السطوه الاستعمارية ومخلبها الهباب واضرابه انما ينقل التاريخ من المكر الى السخافة.

 

والعمل الفني لم يتردد في التشخيص الجريء. ويخيل اليْ ان للمباشرة هنا ما يبررها بل لقد اضافت صراحة ضرورية صفق لها الجمهور مرات سواء عندما تخلصت الزوجة من زوجها المتعاون على اعداء شعبه او عندما امتشق خالد لثامه وطبنجته او عندما تفوق على الهباب في مكاسرة الاذرع... ولكنني أتساءل عن نهاية الهباب الذي انتحر. فمثل هذه الشخصية الشريرة المذمومة حتى النهايات وما ارتكبه من فظاعات وفعل الخيانة هي كما اظن، محصّنة من صحوة الضمير وبعيدة عن الازمة الفكرية التي تفضي لهذه النتيجة. ولا مهرب من استنطاق الشخصية الادبية والفنية عن قوة المسوغات التي افضت بالهباب الى الانتحار، مع التثمين العالي للمستوى التمثيلي المقنع والمتقن للممثل الذي تقمص هذه الشخصية.

 

حضور المضامين الوطني/الطبقي/الجنسوي/ البطولة الفردية

 

لأن الأديب نصر الله يتمتع بثقافة ورؤية فكرية، ولأن المخرج والسيناريست فتحي عبد الرحمن يتمتع بذات الخاصية، وكذا الحال بالنسبة لمحمد عطا مدير وشاح ومصمم رقصاتها، ظهر جليا التناغم بين مقولات الشكل والمحتوى، المظهر والجوهر، المضمون والرسائل الداخلية دون تهويل أو تهوين. فللفن وظيفة اجتماعية وليس مجرد فانتازيا، كما للفن جمالية التعبير جسداً وتمثيلاً وأداءً ولحناً وو... فهو بنية وكلية تتكون من أجزاء، ودرجة تكاملها وجماليتها تعكس مستوى فنها.

 

فالمسألة الوطنية حاضرة، بالهلع الذي يخيّم على قرية الهادية مع اقتراب الجند العثماني والبطش بأهلها وضريبة العشر فيما يحتبس المطر ومصادرة المواشي والخيول... أما الناس فقد انتقلوا من صلاة الاستسقاء والابتهال الى استحصال مياهم من الاقطاعي، ومن الخوف إلى الجرأة، يتقدم الصفوف الفلاح خالد الذي امتشق بندقيته ونصب الكمين واسترجع المسروقات. والبطولة الفريدة حاجة سيكلوجية وطلائعية في آن. أما النسوة فقد اخترن الفعل الايجابي بالاعتصام والاجتماع والهزء من المختار، الى درجة ان تضع احداهن السم لزوجها الخائن... ويصبح خالد طريداً يحميه الكهف والجبل. ألم يلجأ الفلسطيني يوحنا المعمدان للبراري اربعون عاما محرضا على الرومان واتباعهم الذين تواطأوا معهم ودفع رأسه ثمناً مقابل هزة وسط لابنة هيروديا كما تقول الثقافة الانجيلية. وألم تنتشر هذه الظاهرة في ثورة 1936 وسنوات الانتفاض بعد 1987 و 2000.

 

وكان للشجاعة والبطولة اغانيها ورقصاتهما في امسية قصر الثقافة. فالفن تحرري ويخدم التحرر ويتساءل المخاتير: وهل نحن طراطير ام مخاتير؟ وهم يترنحون تحت صلف محصل الضرائب واهانات العثماني، وهم يتماهون مع الأسياد في نظرتهم لأبناء شعبهم وتعظيم سيدهم. لقد عرف شعبنا التماهي قبل أن يكتب البرازيلي باولو فريري عن ذلك في "ثقافة المضطهدين" ولكنهم لم يستمرءوا العبودية كما فعل ارسطو عندما كتب عن علاقة العبد بالسيد، فأغلبيتهم تمردت وقالت لا. وهذه اللا ما برحت تدوّي حتى اللحظة. وخالد اختار النموذج الأصعب، ان يكون طريداً لسنوات وسنوات، (فالرفيق الأفضل يكون حيث المكان اكثر صعوبة) ماو، وعندما يعود يستقبله الاهالي بحفاوة وقد اصبح قائداً ثوريا. وهذا طموح مشروع للأديب كما كتب حنا مينا. اما في الراهن الفلسطيني فالكثيرين انتهوا بين الاحباط والبقرطة.

 

وريحانة بعد ان اجترحت مآثرة التخلص من زوجها افصحت عن رغبتها بالزواج من السعدي الجسور الذي لم يطأطئ رأسه. فقط اختارت مصيرها بايديها متجاوزة النظرة التقليدية. ألا يصنع البشر الفعالون مصيرهم بأيديهم، وهذا تبشير بما ينبغي أن يكون. ويتماشى مع نظرة جون ستيوات ميل ميل في مرحلة الثورة الصناعية.

 

لقد ضم العمل الفني العشرات واستغرق اكثر من ساعة وثلاثة ارباع الساعة... وبعد هذا الظهور القوي، تقف فرقة وشاح أمام تحدٍ جديد، وكذا المسرح الشعبي، فالتغلب على الثغرات والارتقاء لمستوى جمالي أعلى (اذ ليس ثمة ما هو اسخف من الرضى عن النفس) لينين، بل وركن ركين في الثقافة ان تنقد الواقع وتنقد نفسها في آن، على هذا النحو لا تصاب بالتكلس وتتفادى كلمات الشاعر الشهيد لوركا (النفس تستمرء التراخي).

 

لكن خالد يحظى بمكانة مميزة في العمل، مكانة تليق بالنموذج الذي اجترحه. نموذج الطليعي ونموذج الطريد، ونموذج الشجاع، وهذا النموذج عرفته المسيرة الفلسطينية المعاصرة بعد 1967 وما فتئ متجذراً في الوعي والممارسة على حدٍ سواء. انه فوتشيك في المقاومة التشيكية ضد النازية الذي انتقل من موقع المسؤول الأيديولوجي الى مسؤول المقاومة، وهو جيفارا الذي التحق بالأدغال بديلا للتدريس في الجامعة أو الموقع الوزاري، وهو أبو ذو الغفاري الذي رفض حكم العراق مؤثراً حياة التقشف ولم يترك لزوجته سوى جحشته وخيمته وهو الامير بوذا ابن الامراء الذي ترك حياة القصور والتحق بالمعذبين،.. ألم يتجرع سقراط السم على خيانة قناعاته ومبادئه؟! كل ذلك من أجل الخير العام للبشر.