بقلم:خالد الحروب
22 حزيران 2015
«ما استل سيف في الاسلام مثل ما استل على الامامة»، هكذا قال الشهرستاني، كما يقتبس وجيه كوثراني في كتابه مُتجدد الاهمية «الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية»، الصادرة حديثا طبعته الرابعة. ويمكن ببساطة افتكاك مقولة الشهرستاني من سياقها الثقافي والديني الخاص و»كوننتها» بإعادة صوغها كالتالي «ما استل سيف في تاريخ البشر مثل ما استل على الحكم». أُس مسألة السياسة واجتماع البشر، إذن، وجذرها المُتحفز للتفجر يكمن في «السلطة» ... والسلطان. ليس هذا حصرا في فضاءات العرب والمسلمين، بل هو ديدن البشرية على اختلاف اصول سياساتها ومنابت شعوبها واديانهم وثقافاتهم. ظلت السلطة هي المغرية الدامية والمُدمية، من اجلها وفي سبيل السيطرة عليها قامت حروب وابيدت جماعات واهلكت دول وامصار. إذا تم الوصول الى صيغة ما يمكن عبرها إدارة الصراع سلميا على السلطة، عندها تنحسر الصراعات وينخفض منسوب الدم. وإن لم يتم الوصول الى تلك الصيغة فإن دورة العنف والدم لن تهدأ إلا بعد ان تسلم القياد لدورة عنف اخرى لا تقل عنها دموية. أي تأمل في متتاليات العنف والصراع والموت التي حولنا، وفي أي من الاتجاهات الاربعة، يقدم لنا الشاهد والدليل المرير على ديمومة «قانون» الصراع على السلطة ونواتجه.
وتقدم لنا قصة السعي المحموم ل»السلطان»، ايا ما كان زمانه ومكانه ودينه، لإدامة السيطرة والتحكم في السلطة فصولاً مثيرة. بيد ان جوهر تلك الفصول مكرور ويدور حول خلاصة واحدة، ظل المهمومون بالسياسة من ثيوسيدس الى الماوردي وصولا الى ميكافيلي وهوبز يكررون الوصول اليها: كل الوسائل مشروعة في سبيل السلطة. وفي قلب تلك القصة يقع الفصل الاكثر إثارة وهو أن السلطان، وفي حقب وقرون طويلة وحتى يومنا هذا، لم يجد وسيلة اكثر نفاذا وفعالية من الدين لتوظيفه والاستقواء به للإستحواذ على السلطة والتأبد فيها. في المسيحية قبل الاسلام، وفي كل ديانات وسياسات العالم، انهمك السلطان في السيطرة على الدين والمُعتقد ليقول لعامة الناس انه حامي ذلك المُعتقد، وانه الممثل الشرعي له، وان طاعته والولاء له هو من صميم الدين واركانه، واشتغل على تحويل وتحوير وتأويل المقولات الدينية كي تعزز من شرعيته.
جوهر المجادلة التي يقررها كوثراني في هذا الكتاب ويعمقها في المقدمات المتوالية لكتابه هو إعادة الإعتبار لسياقات التطور التاريخي عند احتدام الجدل الفكري والسجالي حول «السياسة والدين» في الاسلام (السني والشيعي) على السواء، بعيدا عن المناطحة النظرية التجريدية. فالسياقات التاريخية، الذاتية والمقارنة، هي التي تحفل بالإغتناء وتكامل الصورة، وتكشف هشاشة التفلسف النظري الإعتذاري من ناحية، والإنتقائية التاريخانية من ناحية ثانية. هناك، اي في التجربة التاريخية وتنوعاتها وتفرعاتها وازمنتها وشخوصها نشهد صراعات «السلطان» و»الفقيه» ويمكن لنا ان نخلص الى نتائج تتمتع بصدقية موضوعية. هذا طبعا يناقض وينقض المنهج النصي الذي تحالف على ترويجه الاستشراق الكلاسيكي، والمنظور الحركي الاسلاموي ومثقفيه الذين وقعوا في أسر النص وتمترسوا به، وظنوه خارقاً للزمن والمكان، وطرحوا عنه تجربة المسلمين الغنية في قرون طويلة والقوها جانباً.
المنهج التاريخي المتعمق، وكما نراه متجسدا في سلطان وفقيه كوثراني هنا، يقودنا الى خلاصات هامة جداً. يتقدمها، تقويض الجوهرانية (السياسية الدينية) التي نصبها المستشرقون وحلفاؤهم من الاسلامويين حول الاسلام، بالزعم بأنه جوهر ثابت لا يتغير ولا يتفاعل مع السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية التي تمور حوله. وجانب من الجوهرانية تلك الادعاء بأن المسجد والسياسة في الاسلام متحدان متداخلاين، ليس ثمة فصل ممكن بينهما كما الحالة في السياق الغربي بين الكنيسة والسياسة. يقول كوثراني ان المستشرقين روجوا هذه الفكرة طويلا، ثم سرعان ما التقطها اسلاميو القرن العشرين، ومعهم تحولت الى ما يشبه القناعة العامة، او «البراديغم». وهكذا، وفي قلب التجربة الاوروبية، وبعد قرون من الحروب الدينية الدموية التي كان جذرها تداخل الدين والسياسة وليس انفصالهما، فإن الحل الناجع الذي آلت إليه تلك التجربة وهو الفصل بين السلطتين يصبح حلا خاصا بالتجربة الاوروبية فقط. اي لا يمكن تطبيقه على الحالة الاسلامية لأن السلطتين هناك متداخلتين ولا يمكن الفصل بينهما، وعليه فإن العلمانية التي كانت هي الحال للمذابح الاوروبية لا تصلح للمسلمين ولا للإسلام. هذه هي النتيجة المُختلة معرفيا وتاريخيا والمدمرة سياسيا والتي آل إليها التنظير الديني المتسيس في اللحظة العربية والإسلامية الراهنة.
لنقض تلك المقولات الفوقية التي تقر بإنفصال واضح بين الدين والسياسية في التجربة الغربية، لكن تفرض وجود توحيد قصري للمفهومين في التجربة الاسلامية، يغوص كوثراني في تواريخ الدولة العثمانية وتواريخ الدولة الصفويةـالقاجارية. يتابع توترات وعلاقات وتنافسات التسيس والتدين في هذه السياقات الاسلامية ليستخرج من قلب التجربة، لا من تأويلات النص المفتوح على التفسيرات التي لا تنتهي، انفصال السلطان عن الفقيه في حالتي التسيس العريض: السني والشيعي. ما بدا ويبدو توحيدا للمجالين المذكورين لا يعكس في الواقع التاريخي سوى السيطرة الفعلية للسلطان على الفقيه، وتوظيف الاول للثاني. في الحقب الاعرض من تاريخ التسيس الاسلامي، ومباشرة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين (وهي المرحلة ذاتها التي شهدت بداية بروز عوارض ما ظهر بعدها) سقط الفقيه في براثن السلطان. ونعلم جميعا ان مدارس الفقه وعلم الكلام واطروحات المناطقة (وسجالات الجبرية والقدرية وخلق القرآن) وكثير غيرها، لم تكن الا استجابات التفسير الديني لمتطلبات المايسترو السياسي المُسيطر في هذا الزمن او ذاك، اي السلطان.
يلاحق كوثراني تلك الاستجابات وتناغمها مع السلطان، او استخدام السلطان لها، في الحقب التاريخية المتنوعة والخاصة بالعثمانيين والصفويين: من المرحلة البويهية والسلجوقية وصولا الى نهوض الدولة التركية الحديثة وإيران الحديثة. من الماوردي ونظام الملك الى محمد حسين النائيني والامام الخميني والاستنتاج التاريخي لا يني يتثبت ويتحقق، وهو سيادة السلطان على الفقيه، وانفصالهما الفعلي عن بعض. بيد ان التوظيف الادماجي من قبل الاول للثاني أبقى ولا زال يبقي على الوعي الزائف المُشتهر بتوحد السياسة مع الدين في الاسلام، وهو الوعي الذي لا يخدم سوى الاستبداد ودكتاتورياته، ودوما بإسم الدين والدفاع عنه.