24 حزيران 2015
مع تنامي نفوذ وسطوة الرأسمال المصرفي في الولايات المتحدة نشأت واتَّسعت ظاهرة “العيش بالدَّيْن”؛ فلا الشركات ولا الأفراد أصبح في مقدورهم العيش في استقلال عن القروض، وكأنَّ المجتمع برمته وقع في عبودية الدَّيْن؛ وهكذا جاء الرأسمال المالي للمجتمع بعبودية الدَّيْن، التي انتهت إلى عاقبتها الطبيعية والحتمية وهي إصابة عبيد الدَّيْن بالعجز عن السداد.
لقد سجَّلَت الولايات المتحدة، المُدْمِنَة على الاستدانة والاقتراض من الخارج من طريق سندات خزانتها، عجزًا في موازنتها الفيدرالية هو الأعظم في تاريخها، أي أنَّ “الدين العام” هو الآن الأعظم في تاريخ الرأسمالية الأنجلو ـ سكسونية.
المدين الأكبر والأسوأ في العالم والتاريخ هو الولايات المتحدة؛ فكلَّما أقرضناه أكثر طلب مزيدًا من القروض؛ وكلَّما زادت مديونيته ازداد عجزًا عن سدادها؛ فهو لا يستطيع أن يجبي من الضرائب إلاَّ ما يَعْدِل جزءًا ضئيلا متضائلا من مديونيته.
كانت الإدارات المتعاقبة (من جمهورية وديمقراطية) تلجأ، وعلى وجه العموم، إلى الاستدانة (من الداخل والخارج) من أجل سدِّ العجز (المزمن والمتعاظم) في موازناتها، فالإنفاق الحكومي، أو العام، وفي مجال التسلُّح على وجه الخصوص، كان دائمًا يفوق، ويفوق كثيرًا، حجم الضرائب التي تجبيها الدولة من الشعب.
وكانت اللعبة الحكومية المألوفة لسدِّ هذا العجز هي الطلب من “مجلس الاحتياط الفدرالي”، أي البنك المركزي، رَفْع سعر الفائدة على الدولار؛ فهذا الرَّفع يغري المستثمرين (في الداخل والخارج) بتحويل مدَّخراتهم من العملات الأخرى إلى الدولار، وضخَّها، من ثمَّ، في مصارف الولايات المتحدة.
هذا التنامي في حجم الطلب (الداخلي والعالمي) على “الورقة الخضراء” كان يؤدِّي، بالضرورة، إلى زيادة سعر صرفها مقابل العملات الصعبة الأخرى، فتتضرَّر، من ثمَّ، صادرات الولايات المتحدة (التي بسبب غلاء أسعار بضائعها في الأسواق الخارجية تراجعت قدرتها التنافسية) وينمو العجز في ميزانها التجاري لمصلحة قوى اقتصادية عالمية منافسة كالصين، التي تتسع حصَّتها من السوق الداخلية للولايات المتحدة مع كل ارتفاع في سعر صرف الدولار، ومع كل ارتفاع، من ثمَّ، في أسعار بضائعها.
على أنَّ هذه الضَّارة (بالنسبة إلى صادرات الولايات المتحدة، وإلى ميزانها التجاري مع تلك القوى) كانت شرطًا لتلك النافعة، ألا وهي زيادة حجم الودائع (بالدولار) في مصارفها، فتتمكَّن الحكومة، من ثمَّ، من الاقتراض (لسدِّ العجز في موازنة الدولة).
اللعبة نفسها كانت تتضمَّن أيضًا أنْ يفوِّض الكونجرس إلى الحكومة (وزارة المالية منها) أمر إصدار “سندات (الخزينة)”؛ وفي كل سندٍ منها تتعهد الحكومة بدفع محتواه المالي لشاريه في أجل معيَّن.
الحكومة تبيع، من ثمَّ، “سندات الخزينة” التي أصدرتها للبنك المركزي، الذي يدفع للحكومة ثمنها نقدًا.
وهذه السندات تصبح كالسلع في مستودع البنك المركزي، فيتولَّى بيعها في أسواق المال، متحكِّمًا، من ثمَّ، في حجم السيولة، فإذا أراد تقليل حجم السيولة باع جزءًا من هذه السندات، وإذا أراد زيادة حجم السيولة اشترى (من الأسواق) جزءًا من السندات؛ أمَّا النتيجة النهائية لهذه اللعبة فهي مزيد من الغرق للدولة والمجتمع في بحر الديون، فتنامي حجم الدين الحكومي (لسد العجز المزمن والمتزايد في موازنة الدولة) يفضي إلى جباية مزيد من الضرائب من الشعب، الذي كلَّما زادت أعباؤه الضريبية اشتد لديه الميل إلى مزيد من الاقتراض.
الولايات المتحدة يمكنها، إذا ما شعرت بتهديد جِدِّي لأمنها الاقتصادي العالمي، أو لمركزها الاقتصادي العالمي، أنْ تُفجِّر مخزونها من “القنابل النووية الاقتصادية”، والذي هو كناية عن أزمات اقتصادية من قبيل “أزمة ضعف (أو إضعاف) الدولار”، و”أزمة العجز عن سداد ديونها (وما أكثرها وأعظمها)”، فتصيب من الاقتصاد العالمي (ومن اقتصاد منافسيها الاقتصاديين الكبار على وجه الخصوص) مقتلا.