27 حزيران 2015
أطرح على نفسي السؤال، عصر يوم الخميس في نهاية الأسبوع، عندما أشرع في كتابة هذا المقال: كم ضربة من هذا العيار الثقيل الذي يشبه الجلد بالعصاة أو السوط الغليظة يستطيع أن يتحملها جلد بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية الأيديولوجية المتطرفة، بل وإسرائيل نفسها، الدولة الصغيرة التي أقامتها الحملة الغربية الثانية، في صراع الغرب مع الشرق بعد الحملة الصليبية الأولى؟
إن كان هذا الغرب التائب اليوم إلى الله من خطيئته، هو الذي يعلن براءته من هذه الدولة العاصية، معلناً أمام الملأ أنه ليس باسمه ومعتقداته وقيمه وأخلاقه، معاذ الله ترتكب إسرائيل جرائمها ضد الفلسطينيين.
إنها لحظة الحقيقة يا إسرائيل، وحين تبدأ هذه اللحظة ،حين تبدأ بالكشف عن نفسها وعن حقيقتها من تلقاء ذاتها، إنها هي اللحظة التي يبدأ فيها الزمن بالاقتصاص منا ومعاقبتنا على جميع أخطائنا.
هذا هو إذن لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا يطل أولاً في مستهل هذه الحركة الافتتاحية ولكن الصاخبة، التي تشبه إطلاق الرصاص في الفصل الثالث من المسرحيات التراجيدية، هذا هو خليفة تاليران وزير الخارجية الأشهر في عهد نابليون، والذي انقض على نابليون من أجل صنع السلام لأوروبا التي أرهقتها حروب ومغامرات الإمبراطور، وكما لو أنه موفد بتوكيل من أوروبا كلها ومعها أميركا أي باسم الغرب، يضع أمام نتنياهو على الطاولة «الإنذار الغربي» هذا ما نريده، وما نجمع عليه نحن الإرادة العالمية والكلمة الفصل هنا «إما وإما».
أما المفاوضات نفسها فهي أهم وأخطر من أن نتركها بعد الآن لكم، أي لتوازن القوى بينكم وبين الفلسطينيين، فنحن سنكون على الطاولة.
رد نتنياهو الذي لم يصدق: «لا لن نقبل إملاءات من أحد»، وكما لو أن مخرجاً يقوم بإدارة هذه الحركات والمشاهد في دراما تمثيلية، فإنه في الوقت نفسه الذي كان فيه فابيوس ينتهي من مقابلته، مع نتنياهو كانت لجنة التحقيق التي شكلتها الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، تقرأ على الملأ لائحة الاتهام الموثقة بهذه الجرائم والموجهة لإسرائيل.
وعصر الخميس كان وزير الخارجية الفلسطينية رياض المالكي يقدم لمحكمة الجنايات الدولية لوائح الاتهام الفلسطينية، هذه المرة حول جرائم الحرب الأخيرة والاستيطان والأسرى، بينما أخذت سفن أسطول كسر الحصار عن غزة في الإبحار من الموانئ الأوروبية إلى غزة ، في تحدٍ واضح للحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة.
وكان سبق تقديم الفلسطينيين ببلاغاتهم لمحكمة الجنايات الدولية وإبحار أسطول الحرية، أن شهد يوم الأربعاء الكنيست الإسرائيلي حفلاً صاخباً. وكانت التصريحات والأقوال المتبادلة فيها بمثابة لحظه أخرى من بلوغ هذه الحقيقة وكشف الأحداث عن خباياها، فيما يشبه سقوط القناع عن الدولة وكشف ردائها التنكري.
هنا فلسطينيون قرروا بذكاء وفطنة سياسية مبكرة، الدخول في لعبة الخصم، بهدف الحفاظ على مواصلة القدرة على البقاء في المكان، وحيث القدرة على التكيف هنا يتفوق على الأداء كما يلاحظ دارون في اختبار القدرة على البقاء، لكن اللعبة أوشكت بعد مخاض طويل على الانتهاء، بعد أن لم يستطع الخصم مواصلة لعبته القديمة بنفس الطريقة، وباتت لعبته القديمة مكشوفة أمام العالم.
هيا إذن الانتقال إلى الهجوم وحيث كلمة السر تكمن مرة أخرى في التوقيت «ردوا إلينا هويتنا» صاح العنصري الفاشي تحت قبة البرلمان، وردت حنين الزعبي: «أيتها الدولة الفاشية والعنصرية والغبية»، وهذا السجال المجرد من أية اعتبارات غير اعتبار الحقيقية، إنما هو الذي يرسم وجهة السفر والطريق القادمة.
لا يمكن لمشروع الدولة العنصرية والفاشية التي لطالما تغطت بقناع الديمقراطية والتماهي الكاذب مع المعايير القيمية لحضارة الغرب، فهذا جيش لم يعد يقاد بقيم الأفكار العلمانية وإنما بأفكار الشريعة اليهودية الدينية المتطرفة للحاخامات، وهذه دولة تتحول شيئاً فشيئاً نحو البربرية.
«اقرنوا إذن الأقوال بالأفعال إذا كنتم صادقين، بالتزامكم مع حل الدولتين الذي لا يستقيم مع مواصلة الاستيطان». كان هذا التصريح في خضم هذا الأسبوع الحافل بالنكد والمصائب لإسرائيل، لجيفري فيلتمان مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، فيلتمان الأميركي وليس غيره الذي ذكرناه هنا في مرات سابقة، باعتباره تلميذ وخليفة هنري كيسنجر في صنع المعادلات المحلية التي تمهد الطريق أمام الإمبراطورية لأحداث الانقلابات والتغييرات السياسية في المنطقة، وحين نعلم أنه وراء كل كلمة تصدر عن الأمم المتحدة إنما يكون ذلك بإشارة من الأميركيين، فهذه هي لحظة الحقيقة المجردة من أية رتوش دبلوماسية، ولا يغير من هذه الحقيقة أن يقول الأميركيون في اليوم الثاني لتقديم الفلسطينيين ملفات لوائح الاتهام ضد إسرائيل إلى الجناية الدولية، من قبيل رفع العتب، إن هذه الخطوة غير بناءة. حين يبدو التكتيك هو الضرب من خلف الستارة وبعد ذلك وتعديل الطربوش.
وقالت تقارير نهاية الأسبوع إن عام 2014 سجل انخفاضاً بما يعادل النصف بحجم الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل، وهذا الرقم يشكل تحولاً يوضح مدى نجاح وتعاظم حملة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل.
ولكن نهاية الأسبوع في يوم أمس تأتي الضربة الأخيرة هذه المرة من لدن حاضرة الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية بالتوقيع التاريخي بين دولة الفاتيكان ودولة فلسطين، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، على الاتفاقية الأولى من نوعها التي تحدد وترسم العلاقة بين هاتين الدولتين.
الفاتيكان الذي يمثل الأكثرية المسيحية حول العالم، وبهذا الإقرار والاتفاق بأن دولة فلسطين هي التي ترعي وتنظم العلاقة مع الكنيسة في أراضيها فإن هذا الاتفاق يفتح الطريق أمام تداعيات أخري فيما يخص التأكيد علي حقيقة دولة فلسطين.
فبأية راية بعد ذلك سوف تحافظ إسرائيل على مواصلة القدرة على البقاء ولا أقول الانتصار؟ راية واحدة توجد أمامك يا بنيامين نتنياهو هي نفس راية الإمبراطور قسطنطين، وهي الاعتراف بالحقيقة التي تستوجب انتصاراً واحداً، وهو هذه المرة بالانتصار على النفس على خلاف كل الانتصارات السابقة في ميادين القتال، فقراءة التاريخ غير السوقية والمبتذلة هي التي علمت الناس قديماً والدول أن هذا التاريخ مثل آلهة اليونان القدامى، وإله إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، لا يحب الافتراء والوقاحة، وأنتم تمارسون هذا الافتراء والوقاحة منذ زمن طويل، وآن لكم أن تدفعوا الثمن، مثلما آن في الصيف للكرم أن يعتصر.
والذي يحدث اليوم أن العالم كله هو الذي يقف ضدكم، فيما الفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم يظهرون في رام الله وغزة سواء، هذه الفطنة السياسية الذكية بالموافقة على المبادرة الفرنسية، والترحيب من جانب حماس بتقرير الأمم المتحدة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، وقديماً قال صن تزو: ينتصر كل فطين يتربص بعدو غبي.