بقلم- أكرم عطا الله
28 حزيران 2015
لماذا لا يدرس طلاب قطاع غزة في الضفة الغربية ؟ لا تنبع ضرورة السؤال من الحاجة إلى توفير فرص تعليمية للطلاب بمستوى أفضل بكثير عن جامعات غزة، ولا بسبب أزمة السفر للخارج والإغلاق المزمن لمعبر رفح وإن كانت هذه وتلك ضرورية جداً لكن الملح هنا هو الضرورة الوطنية التي تتعلق بتواصل المجتمع الفلسطيني ونقل معارفه وخبراته لضمان استمرار هوية وطنية موحدة وجامعة للفلسطينيين بعد خطر العزل التي بدأت تواجهه في السنوات الأخيرة إثر فعل إسرائيلي مدروس بفصل مكونات الشعب الفلسطيني وجعل كل كتلة سكانية مجتمع لوحده أو شعب لوحده وفي هذا خطر كبير.
من كان يوجه السياسة الإسرائيلية في العقود الأخيرة هم علماء الاجتماع الإسرائيليون والذين لعبوا دوراً كبيراً في رسم سياسات ضد الشعب الفلسطيني، فقد عملت هذه العقول على فصل وعزل الكتل السكانية وجعل كل منطقة قائمة بذاتها ليس فقط مناطق 48 بل الضفة وغزة وأبعد من ذلك جعلت من صعوبة التنقل بين مدن الضفة الغربية هي الأمر الواقع الذي كان له أبعد من سياسة أمنية، فقد نصبت إسرائيل أكثر من ستمائة حاجز بين مدن الضفة الغربية وهكذا مع الزمن يصبح الشعب الفلسطيني شعوباً متعددة للحيلولة دون قواسم مشتركة، هدف ذلك هو استمرار تفتيت الهوية الوطنية.
عند إقامة إسرائيل فإن أخطر ما حدث للشعب الفلسطيني هو أن المجموعة الفلسطينية تلقت ضربة قاصمة، إذ كفت هذه المجموعة عن التطور كحالة موجودة منذ آلاف السنين على هذه البقعة من الأرض طورت هويتها الجامعة المتميزة التي لعبت في تكوينها عوامل التاريخ والجغرافيا لكن كان شرطها والتواصل والتراكم فإن في طرد الفلسطينيين وتشتتهم عملية نزع عن سياقهم التاريخي وتهديد لوطنيتهم الجامعة التي كان يمكن أن تتفتت بفعل الهزة وتذوب بفعل الشتات .
فجأة توزع الفلسطينيون إلى أربع مجموعات أي منهما ليست تحت حكم فلسطيني الأولى تحت الحكم الإسرائيلي والثانية في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني والثالثة في قطاع غزة تحت الحكم المصري، هذه المجموعات التي تبقت على أرض فلسطين أما المجموعة الرابعة وهي مجموعة الشتات الكبرى فقد توزعت على العديد من الأقطار، وهكذا توقف المجتمع الفلسطيني عن أن يستمر على أرضه وتوقف عن التواصل مع محيطه وأصبح لكل نظام حكم رغبة بتكريس هويته الخاصة حتى في مناهج التعليم وهكذا أخذت القواسم المشتركة الشعب الموحد بالتراجع وليتحول إلى مجموعات بدأت تتباعد اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً وثقافياً وهذه الأخيرة هي التي شكلت خطراً على هويتهم الجامعة .
لكن مغامرة إسرائيل عام 67 واحتلالها لما تبقى من فلسطين التاريخية وإن شكل ذروة الأزمة بالنسبة للفلسطينيين والعرب، فقد وفر فرصة جديدة للمجموعات الفلسطينية الثلاث لإعادة التواصل من جديد كشعب موحد يقع تحت سيطرة سلطة احتلال واحدة هدفه مشترك وهمومه مشتركة؛ إذ شهدت نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات إعادة صياغة برنامج العمل ضد الاحتلال، وتشكلت النقابات والاتحادات الموحدة وبدأت عمليات المصاهرة والتواصل الإنساني، والأهم أن هذا التواصل والتوحد مكن من إعادة صياغة هوية موحدة كانت السبب الرئيس لاندلاع انتفاضة عام 87 والتي هبت فيها كل جماهير الشعب الفلسطيني في غزة والقدس ورام الله وجنين ونابلس والناصرة والخليل مع توزيع وتنوع مهمات كل منطقة وفق إمكانياتها والتي أفضت إلى أن ترفع إسرائيل رايتها البيضاء أمام أطفال الحجارة.
وبتشكيل السلطة الفلسطينية أصبح الجزء الأهم في الشعب الفلسطيني لأول مرة تحت حكم فلسطيني في الضفة وغزة وإلى حد ما وجود في القدس، وكانت المهمة الأولى للسلطة هي ضمان استكمال استمرار المجموعة الفلسطينية بهويتها الوطنية، لكن إسرائيل ضيقت الخناق من جديد على التواصل والحركة بين المجموعات الثلاث في الضفة والمناطق 48 وغزة إلى حين بدأت الانتفاضة الثانية لتستغل إسرائيل الذريعة الأمنية لتقوم بعزل كل منطقة على حدة في عملية تشبه ما حدث عام 48.
وهكذا بدأ ينشأ في السنوات الأخيرة نوع من الاغتراب بفعل الانقطاع بين المجموعات والتباعد من جديد بسبب الانقسام وتعقدت الأزمة أكثر، وهنا ربما الأخطر في هذا الانقسام حيث حكم حركة حماس الحركة الدينية التي لا تعترف بالوطنية وهويتها بل تسعى جاهدة لطمسها وإحلال هوية مختلفة حتى بالشكل والعادات، استمر ذلك لسنوات فنشأ جيل هنا في غزة منقطع تماماً عن المجموعة الفلسطينية بل تعرضت هويته الوطنية التي نشأ عليها لسنوات إلى نوع من الهزة والارتباك بفعل محاولات حماس تعزيز ثقافتها الخاصة والتي وجدت ممانعة من قبل الكثير من الفلسطينيين الذين تشبثوا بهويتهم التي نمت وتطورت بملامحها القروية الخاصة.
هنا الأولوية الآن بالنسبة للفلسطينيين بإنهاء الانقسام والقتال من أجل تمكين الشعب الفلسطيني وضمان تواصله الجغرافي والإنساني، فلا يعرف الجيل العديد من الغزيين إخوانهم في مناطق 48 الذين تمنعهم إسرائيل من الدخول لغزة، ولا يعرفون إخوانهم في الضفة أيضاً؛ بفعل تحكم إسرائيل في الحركة وتقييد حريتهم في التواصل مع بقية أبناء شعبهم.
إن ما تفعله إسرائيل ضمن مخطط محكم لعزل الكتلة السكانية في قطاع غزة تمهيداً لفصل القطاع وهذا استمر لسنوات ولم تعد هناك مصالح اقتصادية أو تعليمية أو حتى اجتماعية أو إنسانية للفلسطيني في غزة مع باقي مجتمعات الشعب الفلسطيني في فلسطين، وفي هذا ما هو أكبر من أزمة بل خطر داهم يهدد بسلخ مجموعة عن امتدادها بعد أن وفرت إسرائيل ما يكفي من الظروف لتهيئة ذلك.
هنا تبدو مهمة السلطة باعتبارها الكيان السياسي المسؤول عن الفلسطينيين في الداخل بضمان استمرار وحدتهم والعمل بكل ما يلزم لاستمرار تواصلهم، وهذا لن يكون في ظل إجراءات ومخططات إسرائيل بقدر ما يأتي من خلال مقاومة إجراءاتها.
التصاريح في الضفة الغربية مهمة لتواصل سكانها مع قرى ومدن 48 ولكن كيف نضمن أن يصل سكان الضفة إلى قطاع غزة؟ وكذلك يعمل أعضاء الكنيست العرب على تسهيل وصول الفلسطينيين هناك إلى غزة؟ هذا تحدٍ كبير ولكنه مهم وممكن وبالمقابل كيف يمكن ضمان أن يصل الفلسطينيون في غزة إلى الضفة الغربية وأيضاً إلى مناطق 48 هذا مهم وممكن، وإذا جاز لنا أن نقول إنها المهمة الأبرز حالياً فإذا لم نستطيع تحقيق الاستقلال فعلى الأقل يمكن تحقيق ضمان تطور المجموعة الفلسطينية كمجموعة موحدة وليست مشتتة.
الإجراءات الإسرائيلية منافية لحقوق الإنسان في الحركة ولكنها ليست عشوائية، فإسرائيل تعرف ما الذي تريد وهذه القيود التي تفرضها على الفلسطينيين وبالتحديد في غزة وفق سياسة مدروسة على السلطة العمل ضدها لأنه في الآونة الأخيرة بدأت تنمو مجموعات في القطاع بهويات وثقافات ليست فقط مغايرة بل معادية للثقافة الفلسطينية.
يجب الضغط على إسرائيل ومن الممكن الآن توفير تصاريح والاتفاق على فتح جامعات الضفة أمام طلاب غزة وضمان نقلهم ولو مرة واحدة في العام ذهاباً وإياباً وأيضاً الضغط من أجل فتح غزة على بقية الفلسطينيين. المسألة ليست ترفاً سوسيولوجياً بل قضية وطنية ..!