حذيفة دغش " تِنّين بيت لحم "

2.PNG
حجم الخط

وقعت الكاتبة هدى الشوا كتابها " تنين بيت لحم" الصادر عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي بعد العرض الموسيقي الروائي في دار الندوة الثقافي ببيت لحم وبالتعاون مع معهد ادوارد سعيد الوطني الذي ضم عدة فقرات فنية موسيقية بقياده المايسترو "بيير أنطون مرسيه" وفرقة أوركسترا معهد ادوارد سعيد للموسيقى، حيث تكلل العرض مجموعة قوالب موسيقية متنوعة عرضت فيها موسيقيين حازوا على جائزة الكونشيرتو 2017 ، راشد زعرور- أميرة اسحق - سيفان برغوت.

تِنّينُ بيت لحم مشروع أدبي روائي سلس في اللغة و في تسلسل الأحداث التي سلطت الكاتبة الضوء عليها على الإنسان المحاصر من كل شيء، وأبرزها المشكلات المجتمعية التي عانى منها الفتى خضر وهو الشخصية الرئيسة بالرواية، ومن جانب آخر سلطًت الشوا حالة الخناق المستمر من ظلم الاحتلال وسياسته المستمرة في عزل الوجود الفلسطيني على صعيد المكان وفصله عن الإنسان بفعل جبروت الاحتلال.

خضر هو الشخصية الرئيسية التي تحوم حولها الرواية على نحو غير مألوف في سير أحداثها، حيث يسكن الفتى خضر في مخيم الدهيشة للاجئين كحالة اتخذت منه الكاتبة المخيم مكاناً لحالة قِصّتها التي حطت بأكثر من مكان، إلا أن المخيم كان هو محور الأساس ونقطة البداية ليشق الفتى خضر رحلة جولاته بغزوِ السماء على ظهر ضيفه الغريب الذي يزوره فجأة إلي بيته الصغير الكائن في مخيم الدهيشة

حيث استطاعت الكاتبة أن تتخذ من الخيال غاية أو نافذة واسعة لتحلق من خلالها فوق المكان وهو الأهم بالنسبة لها لتتجاوز كل العَقبات المفروضة عليه من جانب المحتل بكل سهولة وسرعة دون أي معيق يحول منع الفتى خضر من تحقيق أحلامه ورؤاه لأن يتجول بطريقة غير مألوفة في الفضاء الواسع على ظهر تِنّين أخضر والتحليق معه نحو ارتفاعات شاهقة حد الغيوم فوق المدن الفلسطينية التي لطالما أًحب زيارتها مراراً ولم يستطع الوصول إليها بعد لمعضلة الجدار الفاصل.

هكذا كان حال الفتى خضر المحاصر من قبل الاحتلال داخل المخيم وخارجه من جهة، ومن ظلم أصدقائه المستمر له في الحارة التي يسكن فيها وفي مدرسته التابعة لوكالة الغوث للاجئين، وكل هذه الخناق التي تحاصره بحكم حالة والده الذي يعاني من مرض عقلي منذ زمن بفعل السجن الذي سلب منه الاحتلال عقله بفعل التعذيب إزاء تهمة وجهت له بهتانا واتهم بها بعد أن تم كمشه وهو عائد من عمله. استقر به الحال في المصحة النفسية " دير المجانين" ليصبح بعدها الفتى خضر ابن المجنون في نظر أصدقائه وما كان لها من آثار سلبية في صقل شخصيته الواهنة وفقدانه لثقته في نفسه أمام زملاءه الذين باتوا يعاملونه بقسوة كلما التقى بهم في الحارة.

جاء الكتاب تحت سبعة عشر عنوانا مختلفاً على صعيد المكان، بلغة سلسة مرنة بعيدة عن الفصحى والتكلف في التصوير الشعري، حيث بدأت الشوا قصتها الخيالة تخت عنوان " إلى المدرسة" التي لم يحبها الفتى خضر قَط، وهو الطالب الكسول غير المجتهد في دروسه، فيصبح موضع سخرية أمام التلاميذ في الصف بفعل أستاذ اللغة العربية حسن الذي يتعمد في محاصرته كل مرة أمام تلاميذ صفه في التنقيب على واجباته وحفظه لقصائد

في لحظة، تنشأ علاقة قوية بين الفتى خضر والتنين الذي يعزز هذا الكائن الغريب ثقته بنفس الفتى خضر الذي بات يزوره تِنينُ من عالم الأساطير، وكأنما جاء إليه كطوق نجاة له ليحاول أن يخفف عنه ويخلصه من واقعه المحاصر. يأخذ التنين بيده نحو الأفق البعيد، الوديان والتلال الخضراء وفوق المدن التي لم يرها من قبل. زار اخفض منطقة بالعالم ومَر فوق البحر الذي ملئ رئتيه بهوائه ليصرخ عالياً، ومرة فوق القدس التي لم يزرها.

من الرواية:

حلَق التِنّينُ خفيضاً حتى دنا قريباً من صفحة الماء. مدّ خضر يديهِ ليُمسكَ بزبدِ الأمواجِ ويطّيّرها في الهواء.. ملأ رئتَيهِ بهواءِ البحر الرًّطبِ ثم أطلق صيحةً عاليةً:

يا بحر!!!!!

استدار التِنّينُ فوق الماءِ واتجه شرقاً.. بعد وهلةِ كانا يطيران فوقَ القُدس

هتفَ خضر:

" لا أصدق أنني أرى القدس.. هذه أول مرة أراها يا تنين" .

في رحلة أخرى يزور الفتى مع التنين مدينة تبعد عن المخيم بضع كيلومترات " مدينة الخضر" مدينة الكروم المليئة بثمار العنب، في عيد مارجُرجس أو الخضر. فيحظى خضر بزيارة خاصة يكتشف فيها حكايات لم يسمع عنها قط، بعد زيارته لأقدم الأديرة التاريخية في فلسطين، دير القديس مارجُرجس، أو جورج، أو الخضر الأخضر التي سميت باسمه ويلتقي بمطران الكنيسة الذي يأخذ به ويقص عليه حكاية أسطورة الفارس مع التنين الأخضر الذي لم يسمع عنها قط.

من الرواية:

قال المطرانُ:

" هذا الدير من أقدم الأديرة التاريخية في فلسطين، سُميّ على اسم ِ الشفيعِ مارجُرجس، الذي ولدَ في اللدِّ وعاش في فلسطين خلال فترة الرومان في القرن الثالث الميلاديّ، فعذبَ واستشهِدَ، ولذا لقبَ بالقديس الشهيد.. يأتي عيدُ في أوائل شهر أيار حين يحتفلُ المسلمون والمسيحيون سواءً بذكرى الخضر الأخضر".

تسير بنا الشوا نحو مكان آخر، شارع النجمة في البلدة القديمة لبيت لحم وإلى أكثر الأماكن قداسة في العالم، كنيسة المهد التي يحظى الفتى خضر بزيارتها ويكتشف ما لم يسمع عنه قط عن تاريخ الكنيسة بعد أن التقى براهب حدثه عن مغارة الأطفال الأبرياء الذي أمر الملك الروماني هيرودس بذبحهم عندما سمع بولادة المسيح خوفاً من أن ينازعه على الحكم. مروراً إلى مغارة أخرى داخل الكنيسة مغارة القديس جيروم الذي أمضى سنين طويلة وهو يترجم الإنجيل من اليونانية والعبرية إلى اللاتينية .

جاءت الرواية على حالة من التنوع في على صعيد المكان والفكرة بأسلوب شيق وجميل وبطريقة غير مألوفة في اكتشاف المكان على وجه الخصوص " مخيم الدهيشة" الذي يواجه باستمرار وغيره من المخيمات على حد سواء من هجمات الاحتلال الشرسة اليومية له، وما لها من آثار جسيمة على شتى النواحي النفسية والاجتماعية وانعدام الأمن على سكانه في كل مرة يُستَباح من قبل الاحتلال بشكل مستمر أو يوميّ

من الرواية:

"نظر خضر إلى الفتى المُلثّمِ يقفُ بكل ثقةٍ رعناءَ فوق سطحِ البناية؛ هل تصيبهُ رصاصةُ قنّاص غادرةٌ من الخلف؟ سألَ نفسه؛ هل سيسعدُ إن رأى وجه مروانُ قد أضحى بوستراً جديداً على حوائط المخيم؟ أو لوحةً تنضمُ إلى جدارياتِ المتُحفِ المفتوحِ لمزمرةِ شهداء المخّيم؟ هل سيبتهجُ لو أصبحَ مروانُ بطلاً جديداً تلحّنُ في ذكراه أغاني الشهادة، ويكتبُ في تأبينه الشّعرُ؟".

سارت بنا الشوا بذكاء وعبقرية غير معهودة في روايتها بين دمج الواقع بالخيال بطريقة غير مألوفة لتحقيق غايات إنسانية بسيطة ومتطلبات أساسية يفتقرها المجتمع الفلسطيني من تحقيق آماله وتطلعاته بفعل غطرسة المحتل المستمر الذي يحاصر فئة الفتيان على وجه الخصوص في أوج حياتهم وسلب الكثير من أحلامهم. وكأنما الكاتبة حاولت أن تجد لنا ولهم مخرجاً ولو كان حلماً في الخيال لحل أزمات معقدة يواجهها الفتى الفلسطيني الذي لم يرَ طفولته على حقيقتها بعد، ولم يمارس حقه الطبيعي في التنقل بين البلاد بحرية مطلقة في المكان الذي يطاوعه قلبه زيارتها.