ترامب والداخل الأمريكي توجهات عنصرية أفزعت الجميع

thumbgen (8).jpg
حجم الخط

 

منذ أن بدأ دونالد ترامب حملته الانتخابية، كمرشح عن الحزب الجمهوري، وهو يطلق الشعارات العنصرية المستفزة للأقليات، وخاصة الإسلامية منها، وكانت التساؤلات التي لا تتوقف هو حول مدى الجدية التي تمثلها تلك اللغة الاستعلائية، والتي لا تمت بصلة لأمريكا بتركيبتها المجتمعية والثقافية، ومنظومة القيم التي تربط علاقات التعايش بين أهلها؛ بأعراقهم ودياناتهم وأجناسهم المختلفة.
لقد شكل نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2017 صدمة مفزعة، لم تصحو بعد من هول تداعياتها - على الداخل الأمريكي - نخب المفكرين والقوى السياسية، ونشطاء المجتمع المدني، والمدافعين عن الدستور والحريات المدنية، وقد عبر الكثير من هؤلاء عن انتقاداتهم لتلك السياسات، بعدما ظهر لكل هؤلاء أنها لا تنتسب لجوهر الفكرة التي قامت عليها أمريكا، ولا علاقة لها بالعقد الاجتماعي الذي شكل الأرضية التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي ناضل من أجلها الآباء المؤسسون منذ أكثر من قرنين من الزمان.
لقد لفت نظري حدة التصريحات التي أطلقها العديد من الشخصيات أمثال مايكل مور؛ المؤلف والناشط السياسي والمخرج الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار، والذي طالب بتغيير وإزالة الثقافة التي أنجبت قيادات عنصرية كالرئيس دونالد ترامب. ونشر مايكل مور صورة له أمام فندق يملكه ترامب حاملاً لافتة كُتب عليها "كلنا مسلمون"، ودعا إلى حملة عالمية دفاعاً عن المسلمين، رداً على تصريحات لترامب بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة.
استراتيجية الأمن القومي الأمريكي للعام 2018: تحديات وتساؤلات
في تعليقه الرسمي على تلك الاستراتيجية، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: "إن الأمة التي لا تفخر بتاريخها، لا يمكن أن تكون واثقة من مستقبلها، كما أن الأمة التي ليست متأكدة من قيمها، لا يمكن أن تستجمع إرادة الدفاع عنها"!!
في الواقع، إن من يسمع مثل هذه الأقوال ويقارنها بما سبق من تصريحات، خلال حملته الانتخابية أو حتى الإجراءات التي اتخذها أثناء المائة يوم الأولى من حكمه، لا يصدق أن هذه العبارة هي لغة ترامب أو قناعته؛ لأنها تأتي خارج سياق ما هو معهود عنه، وهي تذكرني بلهجة العظماء من الآباء المؤسسين لأمريكا؛ كأبرهام لنكولن وتوماس جيفرسون وودرو ويلسون، والتي هي أبعد ما تكون بأبعادها الحضارية والإنسانية عن مدونة السلوك العنصري الذي طبع لغة الرئيس دونالد ترامب وتصريحاته، التي تضج بالعنصرية والاستعلاء والشوفينية العدائية. 
إن تاريخ أمريكا هو أنها بلد الأقليات والثقافات المختلفة، والتي نجحت بالانصهار في بوتقة واحدة (Melting Pot)، والتعايش ضمن منظومة قيمية متكاملة، تحميها تشريعات وقوانين تساوي بين الجميع، وتقطع الطريق أمام أي تفريق على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الدين؛ فالكل سواسية أمام القضاء، والحرية مكفولة للجميع بحسب الدستور الأمريكي.
إن الولايات المتحدة الأمريكية بالشكل الذي تحكيه أدبياتها وسردياتها التاريخية والواقع الذي عشناه فيها وشاهدناه، مغاير تماماً غير لما ظهر في خطابات ترامب العنصرية، والتي أعادت للذاكرة سنوات العبودية والاضطهاد، الذي لحق بالهنود الحمر والسود في عهود أمريكية سابقة.
إن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة كما ورد في الوثيقة (US National Security Strategy) للعام 2018، تقوم على أربعة أعمدة، وهي: حماية أرض الوطن، وتعزيز الرخاء الأمريكي، والحفاظ على السلام عبر القوة، وتوطيد المصالح الأمريكية. وهذا يعني على المستوى العملي، ومن خلال تصريحات ترامب وأركان إدارته، هو فرض المزيد من إجراءات حظر السفر إلى أمريكا، وبناء أسوار عازلة مع الأمم الأخرى، وإعادة إحياء مفهوم "الحدود" بوصفه ركناً وقائياً ودفاعياً!!
من الجدير ذكره، أن هذه الرؤية الاستراتيجية لإدارة الرئيس ترامب تتناقض - كما قلنا - مع الفكرة التي قامت عليها أمريكا، والخاصة بالهجرة والتنوع، وهي تضرب صميم الحلم الأمريكي؛ فإغلاق الحدود وترحيل اللاجئين والمهاجرين هي سياسة معاكسة تماماً لفلسفة الكلمات المنقوشة على قاعدة تمثال الحرية للشاعرة الأمريكية إيما لازاروس: "أعطوني متعبكم وفقيركم وجموعكم التواقة إلى تنفس الحرية، والبائسين الذين رفضتهم الشواطئ. أرسلوا مشرديكم الذين ضربتهم العواصف. إني أرفع مشعلي بجانب الباب الذهبي". ربما كان هذا الشعار هو من جلب آباء ترامب وأجداده للقدوم من مواطنهم الأوروبية البعيدة إلى العالم الجديد (The New World)، الذي كانت تمثله أمريكا منذ قيامها في أواخر القرن الثامن عشر.
إن الديمغرافيا التي تشكل أحد أركان القوة والمكانة الأمريكية هي ما يحاول الرئيس ترامب العبث به بشكل عنصري أثار حفيظة الآخرين من الأقليات العرقية، التي تخشى هي الأخرى أن تطالها - ولو بعد حين - نفس المعاملات والإهانات والتهديدات، التي يتعرض لها المسلمون اليوم في أمريكا.
إن نظرة سريعة لتركيبة أمريكا السكانية، تمنحك هذا الشعور بالقلق والخوف من السلوك العنصري الذي يمثله دونالد ترامب.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الثالثة من بين دول العالم، من حيث عدد السكان والذي يتجاوز ثلاثمائة مليون نسمة، وهي تتميز بأنها واحدة من أكثر دول العالم تنوعاً من حيث العرق والثقافة، وأن الأيدولوجيا القائمة على مفهوم الليبرالية، والحرية الفردية تشكل إلى جانب قبول التعددية والاختلاف أساساً من أسس الهوية الأمريكية، وأيضًا شرطاً رئيسياً من شروط بقائها.
إن هناك حوالي خمسين مليون شخص تعود جذورهم إلى أمريكا اللاتينية (Hispanic)؛ يعيشون في الولايات المتحدة، وهو عدد يمثل ما نسبته 15% من عدد سكان أمريكا. كما يشكل السود (Afro-Americans) ثاني أكبر أقلية، حيث يصل عددهم إلى حوالي واحد وأربعين مليون نسمة؛ أي 13.5%، تليهم الأقلية الآسيوية التي تضم 15.2 مليون نسمة يتوزعون بين ولايات الشرق والغرب الأمريكي، وهناك أيضاً أقليات عرقية ودينية من العرب والمسلمين واليهود تصل نسبتها إلى 6% تقريباً.
مع بداية الألفية الجديدة، كان البيض يمثلون الأغلبية في جميع الولايات عدا هاواي.
أما اليوم، فالبيض يمثلون نسبة 66% من عدد السكان، ويوجد اليوم في هاواي وثلاث ولايات أخرى هي: نيو مكسيكو وكاليفورنيا وتكساس نسبة أكثر من 50% من السكان من غير البيض، وهؤلاء تعود أصولهم إلى أمريكا اللاتينية.
إن تصريحات دونالد ترامب العدائية تجاه تلك الأقليات العرقية الأمريكية من المهاجرين أثارت حفيظة الجميع على اختلاف أطيافهم.. وبعد تنصيبه، أكد دونالد ترامب عزمه إتمام مشروع جداره الفاصل مع المكسيك!! متحدياً موجة الاحتجاجات الواسعة التي تحركت ضد سياساته العنصرية.
لقد أظهر رد الفعل الشعبي الأمريكي وعياً كبيراً بأهمية التنوع العرقي داخل البلاد، كما أن وادي السليكون، مهد التقدم التكنولوجي الأمريكي، لم يتخلف هو الآخر عن إدانة مثل هذه القرارات العنصرية، حيث قال تيم كوك – المدير التنفيذي لشركة أبل – في رسالة إلكترونية للعاملين بالشركة: "ما كان لأبل أن توجد بدون الهجرة، فما بالكم بأن ننجح أو نبتكر؟! أشارككم مخاوفكم. نحن لا ندعم هذه السياسة"، كما صرح أيضًا لـصحيفة (WSJ)، أن "شركة أبل" تفكر في اتخاذ إجراء قانوني ضد قرار ترامب بحظر السفر.
لقد شهدت أمريكا تصاعد حوادث العنف بحق اللاجئين والملونين ومثليي الجنس مؤخراً، وتزايدت مثل هذه الحوادث أكثر مع وصول ترامب إلى السلطة.. ومع أن هذه الحوادث لا تزال في إطار فردي، إلا أنها تعطي مؤشرات بأن استمرار دونالد ترامب في نهجه، فإن ذلك يهدد حالة السلم المجتمعي والتنوع العرقي، التي تمثل أساس تقدم أمريكا ونهضتها الحضارية. وأن أي عنف محتمل قد يشعل سلسلة من الحوادث لا تنتهي في ظل القلق المجتمعي من اضطهاد الأقليات.
إن ما يثير الخوف حقيقة، هو أن الرئيس الأمريكي بإمكانه أن يفعل ما يريد على المستوى التنفيذي، ولكن ما يُعوَّل عليه هو المؤسسات الأمريكية الأخرى، وكذلك منظمات المجتمع المدني، فهي من تشكل حاجزاً بين خطة ترامب وبين تطبيقها على أرض الواقع. وبدون ذلك، فإننا سنشهد ترنحاً للحلم الأمريكي نفسه.
باختصار.. إن ما يتعلق بترامب ومستقبل سياساته، فأنا حقيقة لا اعتقد أن هناك أحداً يمكنه الإجابة على هذا السؤال بدقة. نعم؛ هناك قلق وتخوفات داخل أمريكا وخارجها، ولكن من الصعب - كما يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي - التكهن مع ترامب، حيث إن هناك الكثير من الأسئلة المطروحة، ولكن ما يسعنا قوله هو أن بإمكان التعبئة والحراك الاجتماعين أن يُحدثا فرقاً كبيراً، إذا ما تمَّ توظيفهما على النحو السليم، كما ينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الرهانات كبيرة جداً.
إن استراتيجية الرئيس ترامب تجاه الخارج والداخل الأمريكي، كما يقول بشير محي الدين؛ مركز أبحاث كاتيخون، تشي بما لا يدع مجالاً للشك بأن الإمبراطورية الأطلسية شمسها في اتجاه الغروب، وأن نفوذها كدولة عظمي تنفرد بالهيمنة العالمية يوشك على الأفول، وهذا ما حذَّر منه المفكر الاستراتيجي جوزيف ناي، وبات بيوكانن؛ المرشح الرئاسي السابق، وفريد زكريا؛ المفكر والمحلل السياسي وآخرون؛ ولدى هؤلاء دراسات منشورة في هذا المجال.
إن حجر الزاوية وبيت القصيد حول هذا الجدل الدائر في أمريكا، جراء المواقف والسياسات الطائشة للرئيس ترامب فيما يتعلق بالداخل الأمريكي، هو أن ذلك إذا استمر فسوف يؤدي إلى الكثير من الاضطراب في بنية المجتمع الأمريكي، الأمر الذي يضع المجتمع والمؤسسات الأمريكية أمام تحدٍ حقيقي يمس هوية البلاد ومستقبل الأمن والاستقرار فيها.
إن من تحدثوا بلغة السيناريوهات حول ما هو قادم جراء تلك السياسات العنصرية، وضعوا هناك احتمالين:
الأول؛ استمرار الجدل والتصعيد، وهذا يستند إلى مساندة فريق الرئيس ترامب لرؤيته، فأغلب هذا الفريق يتكون من جنرالات عسكرية ورجال مال وأعمال، يشاطرونه الأفكار ذاتها تجاه المسلمين والإسلام، وفي ظل موجة صعود اليمين المتطرف في الغرب، وتنامي ثقافة العنصرية والتمييز التي أوصلت ترامب إلى الرئاسة، فمن المتوقع استمرار السياسة الأمريكية المعادية للإسلام والمسلمين في عهد الرئيس ترامب، مع محاولة قولبتها فيما تسميه بـ"محاربة الإسلام المتشدد"، وفي مقدمتها الحركات الإسلامية، مع تعمد الخلط بين السياسية منها وبين تلك التي تنتهج العنف.
وفي هذا السيناريو يؤكد رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو في مقال له نشرته الجزيرة، بعنوان "من أوباما إلى ترامب.. دروس وتحديات"، بتاريخ 2 فبراير 2017، أشار فيه إلى أن "هذه الطبيعة الإقصائية للسياسة الداخلية في الولايات المتحدة نحو مواطنيها والمقيمين والأشخاص الذين يعيشون على الأراضي الأمريكية، تحدد مساراً خطيراً، وسابقة ستحذو حذوها أحزاب اليمين المتطرف في مناطق أخرى، وسوف تشوه صورة الولايات المتحدة في العالم، وتدمر أساس القوة الناعمة لديها".
الثاني؛ محاولة التكيف والجمع بين تطلعات ترامب والمصالح الأمريكية، وذلك انطلاقاً من أن النظام الأمريكي جمهوري مؤسسي وليس ملكياً، ومن كون النظام الأمريكي منظومة متكاملة تتمسك كل سلطة فيه بصلاحيتها، ومع وجود مجتمع مدني قوي متجذر في المجتمع ومؤسساته، يؤثر في الرأي العام وصناعة القرار، فمن المتوقع في ضوء ذلك أن تعمل تلك المنظومة على تهذيب سياسة إدارة الرئيس ترامب المتهورة، ولو بالحدود الدنيا، بما يحافظ على المصالح الأمريكية على مستوى الداخل الأمريكي وخارجه، فالرؤساء يأتون ويذهبون مع برامجهم، التي لا يستطيعون تطبيق بعضها، وتبقى سيادة الدستور والقانون الأمريكي، فالقدرة على التجديد سمة أمريكا.
في الحقيقة، يبدو هذا السيناريو هو المرجح في المدى المنظور؛ نظراً لتعدد الملفات التي أثارتها سياسة إدارة الرئيس ترامب تجاه العديد من الدول والمنظمات الفكرية والمالية، وطريقة تعامل الرئيس ترامب مع المؤسسات الأمريكية، مما يفقد الإدارة الأمريكية القدرة على تنفيذها، خصوصاً مع ضعف تأييد المؤسسات التشريعية والقضائية ومنظمات المجتمع المدني لها.
من هنا، يأتي التساؤل الذي طرحه د. أسامة أبو ارشيد؛ الكاتب والباحث الفلسطيني المقيم في واشنطن، قائلاً: متى يا ترى ينطلق حوار وطني أميركي حقيقي عن الأسباب التي أوصلت مجتمعاً يباهي بديمقراطيته وعراقة قيم الحرية والحقوق الفردية إلى وضع يُمَجِّدُ فيه قرابة نصفه دكتاتوراً في مرحلة الصناعة!؟ إن لم يحصل ذلك قريباً وبشكل جاد فإن أميركا قد تكون على موعد مع نظام حكم عالم ثالثيٍّ يوماً ما، بما يحمله ذلك من تداعيات كارثية على أميركا والعالم. وحتى إن نجحت أميركا في تجاوز عاصفة ترامب، فإنه قد يتمكن من غرس بذور ديكتاتورية أعتى قادمة، إن نضجت ظروفها. 
ختاماً.. إن انتخابات الكونجرس في نوفمبر القادم ستكون هي المؤشر الحقيقي على مدى صحوة الداخل الأمريكي، وقدرته على إضعاف قبضة الجمهوريين على السلطتين التشريعية والتنفيذية، والتي سمحت لترامب أن يمرر الكثير من سياساته العنصرية، إن خسارة الجمهوريين في الانتخابات البرلمانية القادمة وعلى مستوى الولايات ستكون هي الرد الحقيقي على ترامب، وهي من سيؤدي إلى تحجيم صلاحياته، ومواجهة هذا التغول الذي يتعارض حتى مع مقولة "أمريكا أولاً"، والتي سيكتشف الأمريكيون أنها مجرد دعوة لعزلهم عن العالم، الذي وفد منه آباؤهم وأجدادهم، يوم كانت أمريكا هي "العالم الجديد" لأحلام البشر أجمعين.