عندما يحتفل النظام السوري بذكرى كارثة

thumbgen (8).jpg
حجم الخط

 

من أطرف ما شهدته الأيّام القليلة الماضية صدور بيان عن القيادة القطرية لحزب البعث في سورية لمناسبة مرور 55 عاماً على الانقلاب العسكري الذي جاء بهذا الحزب الى السلطة في الثامن من مارس من العام 1963. قتل ذلك الانقلاب، الذي خطط له في الواقع ضباط علويون، على رأسهم محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، أي أمل في أن تقوم لسورية قيامة في يوم من الأيّام.
ما زرعه النظام الأمني، الذي قام مع الوحدة المصرية - السورية في 1958، من بؤس وقمع وتهجير لأبناء الطبقة المعلّمة والمستنيرة والبورجوازية السنّية والمسيحية، حصده الضباط الذين انقلبوا على «الانفصاليين» الذين حاولوا إعادة الحياة الى سورية عندما أنهوا الوحدة مع مصر في 28 سبتمبر 1961.
كان الانفصال المحاولة اليتيمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية المؤهلة، في الماضي طبعاً، لأن تكون إحدى الدول الطليعية في المنطقة. بدل أن تلعب دوراً طليعياً، سقطت في يد الاجهزة الأمنية التي كانت الوسيلة التي لجأ إليها الضباط العلويون ثمّ الأسد ابتداء من خريف العام 1970 لإقامة نظام أقلّوي تحت شعار «الحركة التصحيحية».
تحوّل هذا النظام الأقلّوي بعد 2000، في عهد بشّار الأسد إلى نظام عائلي. لعلّ الميزة الأهم لهذا النظام في عهد الأسد الابن كونه يرفض الاعتراف بالواقع السوري وبالحال التي وصلت إليها سورية التي صارت تعاني من خمسة احتلالات، بل صارت تحت خمس وصايات.
من يقرأ البيان الصادر عن القيادة القطرية يحتار بين الضحك والبكاء. لكن هذه الحيرة تتوقف عند الوصول إلى بعض المقاطع التي تؤكد أن النظام السوري يعيش في عالم آخر. من بين العبارات الواردة في البيان تلك التي ورد فيها الآتي: «في إطار التطوير الذاتي هذا، استقامت الثورة (انقلاب الثامن من مارس 1963) بالحركة التصحيحية (العام 1970) التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد. واندفعت عملية التنمية الشاملة على المستوى الداخلي مترافقة مع سياسة قومية عربية فاعلة ومواقف دولية تؤكّد أهميّة السيادة واستقلال القرار. هذا التطوّر النوعي جعل من سورية دولة مستقلّة تماماً في منطقة عزّ فيها الاستقلال. دولة متحرّرة من قيود البيوتات المالية الدولية وشروطها. إن تعاظم دور سورية في المنطقة وعلى المستوى العالمي جعل أعداء العروبة والاستقلال والإنسانية يحشدون كل ما لديهم من طاقات وإمكانات لمواجهة سورية. يدفعهم في ذلك خوف من أن تنتقل عدوى الاستقلال إلى دول أخرى...».
تختزل هذه المقاطع الواقع السوري. هناك نظام يتحدّث عن الاستقلال فيما البلد واقع تحت خمسة احتلالات. يسيطر الأميركيون على ثلث الأراضي السورية وعلى معظم ثروات البلد. ويسيطر الروسي على الساحل السوري وتركيا على مساحة تزيد على مساحة لبنان من الأراضي السورية. ويسيطر الإيراني على دمشق وعلى جزء من الجنوب السوري، فيما لا يزال الإسرائيلي في الجولان المحتل منذ 1967، أي منذ ما يزيد على نصف قرن بقليل.
إذا كان من دور لعبه النظام السوري، منذ 1963، مع التوقف عند محطّتي 1966 و1970، فهذا الدور يتمثّل في تفتيت سورية ولا شيء آخر غير ذلك. عندما يتحدّث هذا النظام، الذي تذكّر أخيراً حزب البعث وانقلاب 1963، عن الاستقلال فإنّه يبحث عن غطاء لعملية الاغتيال التي نفّذت ببطء واستهدفت التخلص من سورية.
لا يستطيع النظام في الوقت الراهن استيعاب أن الخيار الوحيد الذي بقي أمامه هو الرحيل من دمشق. عاجلاً أم آجلاً سيحتفل السوريون بجلاء النظام عن دمشق. سيحصل ذلك بعد تدمير الغوطة الشرقية وتهجير أهلها من منطلق مذهبي، ليس إلّا تلبية لرغبات ايران.
عاجلاً أم آجلاً أيضاً، سيجد النظام نفسه أمام حائط مسدود. يعود ذلك إلى أن الجانب الروسي الذي يعاونه في الخلاص من الغوطة الشرقية يريده ورقة ضغط في مفاوضات مع الأميركيين تتجاوز سورية. تكمن مشكلة موسكو في أنّ إدارة ترامب ليست في وارد إعطاء شيء لفلاديمير بوتين في مقابل رأس الأسد. يعرف النظام ذلك وهو يمتلك ما يكفي من الدهاء لتوريط الجانب الروسي في لعبة لا أفق لها ما دام في وضع يستطيع فيه الرهان على منافسة بين موسكو وطهران وعلى تجاذب بين العاصمتين عنوانه لمن ستكون الكلمة الأخيرة في دمشق في مرحلة ما بعد رحيل الأسد.
في انتظار الرحيل عن دمشق والمعركة الكبيرة التي سيشهدها الجنوب السوري في حال إصرار إيران على البقاء فيه وعلى أن تكون دولة متوسطية، ليس أمام النظام سوى متابعة ممارسة لعبة الهروب إلى الأمام. ليس بيان القيادة القطرية سوى دليل آخر على أن النظام يعاني من مرض التوحّد. يمنعه هذا المرض من رؤية الأمور كما هي وأن يكون على تماس مع الواقع، بما في ذلك أنّ النظام الذي أقامه حافظ الأسد لم يكن في يوم من الأيّام سوى أداة تستخدم في لعبة لم يكن من هدف نهائي لها سوى الانتهاء من سورية عملياً.
مؤسف أن عرباً كثيرين لم يفهموا ذلك منذ البداية. تغاضوا عن تسليم الجولان لإسرائيل في 1967، عندما كان الأسد الأب لا يزال وزيراً للدفاع. تغاضوا عن الدور الذي لعبه النظام في توريط الفلسطينيين في حروب لبنان من أجل القضاء على الوطن الصغير. تغاضوا عن الدور الذي لعبه النظام في إدخال إيران إلى سورية ثم إلى لبنان بهدف تأجيج الصراع المذهبي في المنطقة. تغاضوا عن دوره التآمري على العراق في كلّ وقت من الأوقات. هذا غيض من فيض ممارسات النظام في نصف قرن وأكثر. هناك لائحة لا تنتهي وربّما لن تنتهي يوماً لإنجازات النظام السوري الذي لا يخجل من ترديد كلمة «استقلال» واستعادة ذكرى الكارثة التي حلت بسورية في مثل هذه الأيّام من العام 1963. هل من نظام في العالم يفتخر بكارثة ويلجأ إلى ذكرى تلك الكارثة لتبرير حربه على شعبه؟
متى ينتهي دور النظام. لن ينتهي قبل الانتهاء من سورية. السيناريو اليوغوسلافي صار جاهزاً. قد يكون هذا السيناريو الوحيد الذي يصلح لسورية ما بعد المراحل التي مرّت فيها منذ استيلاء البعث على السلطة قبل 55 عاماً...
عن الرأي الكويتية