أثناء الحرب العالمية الثانية، وحين كانت صفارات الانذار، ودوي الطائرات يملأن أجواء لندن، كان رئيس الوزراء وينستون تشرتشل، متوجها من منزله إلى مكتبه، سأله السائق متى تنتهي الحرب سيدي رئيس الوزراء؟ أجاب... لو انتظرت ثوانٍ معدودات لسألتك نفس السؤال.
الذي اعترف لسائقه بأنه لا يعرف، لم يكن رجلا عاديا بل كان أحد صناع مصائر الشعوب، ومن ضمنهم مصير شعوبنا في هذه المنطقة. وفي حالات كثيرة تلتبس الأمور حتى على صناع القرارات والمصائر، فلا يعرفون ماذا سيحدث غدا أو بعد غد. ويبدو أننا في الشرق الأوسط دخلنا هذه الحالة، فلا أحد من المحللين والزعماء، يعرف إلى أين تجري الأمور، ولا أغالي لو قلت... حتى رئيس الولايات المتحدة الذي يعتبر بكل المقاييس أهم رجل في العالم وصاحب الصلاحيات التي تحدد مصائر شعوب وكيانات.
ونحن أهل الشرق الأوسط، ننام على مذبحة لنصحو في اليوم التالي وقد نسينا مذبحة الأمس لننشغل بمذبحة اليوم، ونرى بالعين المجردة سقوط نظم ونهوض نظم بديلة، بل إننا نرى ما هو أفدح، أي انتهاء خرائط وكيانات دون أن نعرف كيف ستكون الخرائط الجديدة، وما هو شكل الكيانات التي ستولد بعد هذه الزلازل الشاملة.
فسورية مثلا تبدو كما لو أنها ستتحول إلى عدة سوريات، بل ربما يكون التقسيم الذي كرهناه عقوداً طويلة، نعمة صعبة المنال بعد هذا الكم الهائل من الدم والجثث واللاجئين في وطنهم، والمشردين خارج الوطن.
وتوأم سورية التاريخي العراق، حيث التوالد البكتيري للحروب بين الطوائف والملل والاعراق، يبدو لنا غامض المصير، فلا وحدة ولا تقسيم بل بلداً تتنازعه الأطماع، والأحلام الإمبراطورية، وعواصف نزاع النفوذ الدولي.
هذا في المنطقة التي تسمى تاريخيا العمق الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي، وإذا ما انتقلنا إلى البلد الأهم بكل المقاييس مصر، فإننا نلحظ استماتة من جانب قوى عديدة لانهاكها، كي تظل منكفئة على ذاتها ومشاكلها، في صراع مرير بين من يريدون مصر كما يجب أن تكون جدار أمان وحماية للأمة، أو عبء على المنطقة بأسرها، أو بوابة يدخل منها الطامعون إلى كل مكان يرغبونه في منطقتنا العربية، ولا شك أن ما يجري في ليبيا هو في واقع الأمر معركة هدفها الأساسي مصر.
ولا ننسى ونحن نستعرض هذا الوضع البائس، أن نعرج على اليمن الذي يجري على أرضه ما هو أفدح من الحرب الأهلية، ولا يمكن لأي عاقل ألا يتخيل ألسنة النار تمتد لتصيب القلعة الرئيسية الأخرى في عالمنا العربي وهي السعودية.
هذا التشابك والتعقيد وتدافع المفاجآت والزلازل، والذي يحمل ملامح حرب كونية كتلك التي اعترف أحد صناعها وأبطالها بعدم قدرته على معرفة مآلها، تتكرر بصورة أبشع وأكثر تخلفاً وفوضوية من كل ما سبق من حروب.
وإذا كنا لا نعرف ما يجري في الشرق الأوسط، والجزء العربي منه تحديداً، فلا مناص من تحديد المواقع والأدوار في هذه الغابة المتشابكة، وبالأمس وفي حديثه التفصيلي اجتهد الرئيس المصري بمخرج صعب ولكنه الأقرب إلى الواقعية، فلقد اقترح الرجل تشكيل قوة عسكرية عربية موحدة لمواجهة التهديدات الخطرة التي تصيب العالم العربي، وحين يأتي اقتراح كهذا من بلد يمتلك أكبر جيش في عالمنا العربي، فلا مناص من احترام هذا الاقتراح إن لم نقل التسابق على تنفيذه.
فيما مضى كان مجرد الحديث عن أمر كهذا، يعتبر شعارا مستحيل التحقيق، أما الآن وأمام فداحة ما يجري، وغموض الآفاق فيما يتصل بالمصير، فلم يعد مقبولا الارتهان للمعادلات القديمة، بل صار ضروريا إبداع وسائل جديدة، وما اقترحه السيسي يستحق الاعتماد.