الكاتب: نهاية أبو ريان
معالجة نفسية روائية
مهما حاوات أن أتخيل المشهد لكنني لن أصل إلى تصور الحالة كما هي معاشة في واقعها الفعلي، فكيف يفر الانسان المفزوع من الموت إلى الموت؟ هي بوتقة من نار تصهر كل من يقترب منها أو يبتعد عنها! لا خيار فيها للحياة، إلا بمعجزة الأمل وطاقة الصبر والايمان بالنجاة، حينما يتخلى عنك الجميع، وتظن من شدة اليأس أن الله أيضا قد تخلى عنك، ثم تتطهر بدموعك من خوفك، وتصرخ صرخة مدوية، تزلزل السماء وتنادي أهلها وأهل الأرض علهم يغيثونك من وعثاء الظلم، وقسوة الوجع، وصليل الموت الذي تقوح رائحته من كل حدب وصوب.
طوبى لتلك الأنفس التي لا تزال تتشبث بالحياة رغم انعدام مقوماتها، لا أمن فيها ولا سلام، فأي عين تنام؟ منذ ما يزيد على سبع سنوات وحالة الحرب هي سيدة الموقف في سوريا، مشاهد مروعة وقصص لا يمكن تخيلها من الطغيان، والناس قطعان أعين الذئاب تتربص بهم، مهما اختلفت مسمياتهم، فإنهم تجمعهم نفس الصفة، ويتفقون على ذات الغاية التي يبررون بها وسائلهم التي يستخدمونها، للإطاحة بكل ما يغرس الحياة في نفوس الناس، فجميعهم اتفقوا على أن يجعلوا البلاد كومة من الركام، وأن تكون الديار فارغة، كمدينة الأشباح، ففي كل يوم يكبر فيه عمر الحرب، ينقص فيه عمر الانسان السوري، ودعوني أخص بالذكر أهل الغوطة الشرقية الذين أصبح لهم ما يقارب الشهر لا يسمعون غير صوت القذائف والنحيب على أرواح من رحلوا.
إن واقع الحرب يفقد الانسان السيطرة على مصادر إنسانيته، وأقصد هنا، أن الانسان المنكوب في زمن الحرب يحاصر في كل مقومات الحياة التي توفر له العيش الكريم، وتحفظ له بقاؤه. فأول ما تصادره الحرب هو حاجات الأمن للإنسان، والتي تتمثل في تعريض سلامته الجسدية للخطر، وتشرده من مكانه، فتفقده أمن المكان، وتسلب منه موارده المعيشية، لتصل إلى مصادرة احتياجاته الاجتماعية التي تتمثل في فقدانه للعلاقات المهمة بالنسبة له مع الاخرين، وهي العلاقات الاسرية والصداقات، وتحط من تقديره واحترامه لذاته وتنتهك انسانيته، فتجرده من حاجته لتقدير الذات، ليصبح عالقا في البحث عن حل للمشكلات وتقبل الحقائق التي ليس من السهل عليه ان يتقبلها كواقع أو كماضي أو كمستقبل.
فالأحداث في زمن الحرب تحجب الذاكرة وتصيب الاحساس بالبلادة الا من الخوف الذي لا يبرح أي مكان يتواجد فيه الانسان المنكوب. ففي الحرب لا تنتهي الصدمة، بل تبقى مستمرة إلى ما بعد انتهاء الحرب، لأن أثر الوقائع والأحداث والخسارات المتعددة لا ينتهي بانتهاء الحرب. لذلك فإن كل ما يستجيب به الانسان من فكر واحساس وسلوك اثناء الحرب كي يستطيع أن يستوعب ويتقبل الاحداث هو طبيعي جداً، هي استجابات انسانية طبيعية للأحداث غير الطبيعية في الحياة، لأن الجسم والعقل والاحساس يكون في حالة مواجهة ومقاومة لحظة بلحظة كي يحافظ على بقائه، ولكن لا يمكن ان تصنف ردود الفعل هذه أو الاعراض على أنها اضطراب ما بعد الصدمة، لأن الصدمة لا تزال مستمرة، وإنما هي طرق وآليات مواجهة الصدمة والتغلب على آثارها، وبناء الجلد والصلابة النفسية التي تعمل على برمجة القدرة على التعافي من الصعوبات والنكبات. وتعتبر من منظور العلاج الروائي انها المخرجات النادرة التي تجعل الانسان يتشبث بالبقاء ويحافظ على حياته، وعلى حياة الاشخاص المهمين في حياته، والأماكن العزيزة عليه. أما مشاعر الفقدان المتراكم والمتتابع والتي لا يتمكن الانسان في الحرب من حصرها، فقد يقوم بتغليفها وكبسلتها وكبتها في زاوية مظلمة من الذاكرة، وهذه ليست حالة من الانكار ولا هي حالة من التقبل للفقدان، إنما هي حالة أقرب إلى الحفاظ على روابط العلاقات المهمة مع كل الأعزاء الذين تم فقدهم، وكل الأماكن التي أصبحت ركاما أو فقدت أمنها أو تشرد منها، إذ أن مقومات الصدمة تصبح هي نفسها مقومات ودعائم الحياة لدى هؤلاء الناس. أي أنها شكل من أشكال استعادة الذات والذاكرة، وهي منهج يحافظ فيه الشخص على أمنه، وعلى سيطرته على بقاء الاشخاص والاشياء المهمة بالنسبة له في حياته، كي يتمكن من حمل أثقال أوجاعه من آلام الحرب، ويجر نفسه نحو الاستمرار في الحياة، لأجل من غابوا، ولأجل من ضحوا، ولأجل نفسه، ولأجل كل من بقي على قيد الحياة من إنسان أو حجر أو شجر أو هواء وماء.
تكاد تطن في أذني صرخات استغاثة الناس، وأصوات نحيبهم التي تتعالى، ودموعهم التي تنساب فوق شفاهم كي تروي رمق عطشهم، وتسعف حبالهم الصوتية التي انهكت من شدة الاختناق بمشاعر القهر، ومشاعر الغضب، ومشاعر الخوف والفزع والرعب، ومشاعر اليأس والخيبة، ومشاعر الخوف من المجهول، والقلق من نهاية المصير وما ستؤولون إليه الحال. لمن يتابع المشهد الانساني للناس في الحرب يجد أن الناس تحاول أن تستجمع قواها وتفر من المكان، يحاولون الهرب من الخوف إلى الأمن، فيقعون بين فكي الموت، بين المطرقة والسنديان، ليحشروا معاً بكل ما تبقى منهم من عزيمة وقوة وطاقة مهما بلغت هشاشتها، يحاولون أن يصلبوا قاماتهم المحنية من شدة وجع وحسرة الحرب التي تنتهك كرامتهم وانسانيتهم وتقطع أوصالهم وتمرغ هاماتهم بالتراب، ليكتشفوا أن أهم استراتيجيات البقاء في زمن الحرب هي انتظار الموت
الشعور بالتقييد وعدم القدرة على الحركة، والذهول الذي يطبق على صدر الناس، وأن لا حول ولا قوة لهم سوى أن يحافظوا على كمية الهواء التي تسحبها رئتي كل شخص كي يتنفس، وإن كان الاوكسجين فيها محملاً بمصائر الغبار التي تتناثر في جوفهم، ويبتلعونها بدلاً من الطعام الذي لم يعد موجوداً، هي طاقة وجود وقدرة على البقاء. كما ان عضلة اللسان التي لا تزال تحافظ على رطوبة جوف الانسان المنكوب مهما كانت ثقيلة ليبتلع مرارة الألم في الروح والجسد، هي مهارة من مهارات البقاء، وتلك الاصوات التي تأتي من داخل كل شخص يحدث بها نفسه عن الأمل، والثقة بالله، والايمان بالحرية، والتشبث بالحق والحياة، وأن يكون الانسان قادرا على أن يُصدم من الاحداث، هي أيضاً طرق للتغلب على الصدمة والحفاظ على البقاء. فالقدرة على البكاء، والقدرة على الصراخ، والقدرة على الغضب، والقدرة على الهرب، والقدرة على التنفس، والقدرة على الرفض، والقدرة على الكلام، والقدرة على النهوض والوقوف، والقدرة على القعود، والقدرة على فتح العيون واغلاقها، والقدرة على السؤال، والقدرة على المشي، والقدرة على التذكر والاحتفاظ بالذكريات، والقدرة على التألم، والقدرة على الاحتفاظ بالأمل، والقدرة على الدعاء، والقدرة على رعاية الاخرين والاحساس بهم، والقدرة على الصمود، والقدرة على الحلم، والقدرة على الابتسامة، والقدرة على النوم، والقدرة على أن تشعر بجسمك وتلمس جلدك وتتأكد من أنك ما زلت حياً، وغيرها الكثير من القدرات، جميعها هي معالم للحياة، وعناصر للبقاء، وعلامات للقدرة على التعافي من الألم بعد انقضاء زمن الحرب.
وعليه، فإن مقومات الصدمة تصبح هي نفسها مقومات الحياة في زمن الحرب كمنظور جديد لأوجاع الناس، فبدل أن يتم تصنيف الناس ضمن رؤية الاضطرابات النفسية المختلفة، يتم اعطاء أوجاعهم معنى وقيمة وتكريم وتقدير لقصص نجاة هؤلاء الناس ضمن رؤية التعافي النفسي وليس المرض النفسي. فرغم أن في صدر كل شخص قلب كالعصفور الجريج ينازع الحياة ويجابه الموت، ونبضاته ترتعش وترتجف من شدة قسوة الموقف، إلا أن كل شخص قادر على أن يجد في نفسه وفي كل ما يحيطه مقومات ليسند نفسه، ويحافظ على حياته، رغم أنف الحرب!