لحظة مواجهة الحقيقة

921381521978253.jpg
حجم الخط

 

 

كانت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، التي نالت من السفير الأمريكي في «إسرائيل» ديفيد فريدمان على نحو غير معتاد، تعبيراً عن يأس وصل منتهاه من أي سلام وعدل، أو أدنى احترام للقانون الدولي. بنص كلامه: «الإدارة الأمريكية تعتبر الاستيطان شرعياً وسفيرها يرى أن الإسرائيليين يبنون المستوطنات على أرضهم».

تداعت تصريحات مضادة أمريكية و«إسرائيلية» اتهمت «عباس» بالترويج للكراهية ومعاداة السامية، وأن الوقت قد حان للاختيار بين هذا الخطاب والسلام.

بغض النظر عن عدم مناسبة العبارات الغاضبة للكلام الرئاسي، فإنها بحمولاتها السياسية والإنسانية إعلان قطيعة مع أية مشروعات سلام أمريكية تحت اسم «صفقة القرن»، أو بأي اسم آخر.

في زحمة التغطيات للفعل ورداته لم نلتفت بما هو كافٍ إلى ما قاله «جيسون جرينبلات» مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، من أن «اللمسات الأخيرة على خطة السلام توشك على الانتهاء» وهذا معلوم دون تأكيد جديد «غير أنها سوف تعرض حين تتهيأ الظروف الملائمة» وهذا معناه أن الرفض الفلسطيني عقبة لا يمكن تجاوزها لتمرير تلك الخطة.

رغم حدة الإهانة للإدارة الأمريكية كلها، لا السفير وحده، فإنها أكدت رغبتها بالمضي قدماً فيما هي بصدده باسم السلام والتعايش وتحسين شروط حياة الشعب الفلسطيني والعمل على رخائه!

التصميم الاستراتيجي هنا فوق الاعتبارات الشخصية.

السفير الأمريكي لم يعلق تقريباً على إهانات «عباس» مكتفياً بالسؤال: «هل هذا خطاب سياسي أم معاداة للسامية؟».

ورئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو اعتبر أن تصريحات عباس تضع النقاط على الحروف دون أن يستفيض خشية قطع أي أمل في «تليين» مواقف السلطة الفلسطينية بضغوط أمريكية وعربية.

لم تكن تصريحات السفير فريدمان مفاجئة، فهو مستوطن وعائلته تعيش في المستوطنات، آراؤه تتماهى مع اليمين «الإسرائيلي»، وتتسق مع ما يعتقده الرئيس الأمريكي.

إذا ما ضمت الكتل الاستيطانية إلى الدولة العبرية، واستبعدت القدس من أي تفاوض، وألغيت إلى الأبد أية حقوق للاجئين، فالمعنى أن «الإسرائيليين» يأخذون كل شيء والفلسطينيين يخسرون كل شيء.

هنا صلب مشروع السلام الأمريكي الجديد، كما هو أزمته التي تومئ بفشل ذريع أيّاً كان حجم الضغوط.

من الذي يحرض على الكراهية ويتبنى خطابها: المحتلون أم الضحايا؟.. العنصريون أم المضطهدون؟ المنطق يكاد أن ينتحر على مشنقة القضية الفلسطينية.

هذه لحظة مواجهة الحقيقة بلا خداع لنفس، أو مضيّ وراء سراب في التيه. للحقيقة ضروراتها حتى يعرف الفلسطينيون أين يقفون بالضبط.

وللحقيقة أثمانها، فلا قضايا تكسب بعدالتها وحدها.

«لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة

لكن عرشك نعشك فاحمل النعش

كي تحفظ العرش، يا ملك الانتظار

إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار».

هكذا أنشد شاعر فلسطين الأكبر «محمود درويش» بعد اتفاقية «أوسلو».

بضمير الشاعر سجل اعتراضه على ذلك النوع من السلام، منتقداً الزعيم الفلسطيني «ياسر عرفات» رغم العلاقة الوثيقة التي جمعتهما ك«ابن روحي». بإرثه الوطني رفض «عرفات» أن يمضي في اللعبة إلى نهايتها عندما اكتشف حدودها وخديعتها. لم يخشَ الشهادة ولا حمل نعشه ليحفظ عرشه، كأنه يرد لنفسه كبرياءه، ويؤكد استحقاقه لحجم الدور، الذي لعبه في التاريخ الفلسطيني.

استقرت في الذاكرة العامة عبارته الأخيرة: «بل شهيداً، شهيداً، شهيداً» عندما وصلوا إليه بالسم. من غير المستبعد استهداف حياة «عباس» هو الآخر لنفس السبب.

عندما جرى التخلص من «عرفات» بدا «عباس» بديلاً تتوافر فيه مواصفات الشريك المطلوب، فهو «عراب أوسلو»، لكنه راجع نفسه بدوافع مسؤوليته أمام شعبه، بتعبيره: «لن أنهي حياتي بخيانة»، وهذه عبارة تبدو كحد سكين يفصل بين تاريخين.

هو يقترح بدواعي رفض المشروع الأمريكي عقد مؤتمر دولي للسلام، وآلية دولية لرعاية المفاوضات بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين».

الاقتراح قد يكون مفيداً لإثبات سعيه للسلام وفق المرجعيات الدولية، لكنه ليس خياراً ممكناً بالنظر إلى أنه لا أحد من اللاعبين الدوليين مستعد للصدام مع الإدارة الأمريكية. وهو يقترح باسم فك الحصار عن القدس ودعم عروبتها إلى زيارتها دون أن ينظر في تداعيات ما يدعو إليه من إفقاد القضية الفلسطينية ورقة رفض التطبيع بوقت تتزايد في العلن والظلال، مشروعات التعاون الإقليمي مع «إسرائيل».

وهو يطالب «حماس» باسم اختبار جدية التزامها بإنهاء الانقسام أن تتحمل مسؤولية القطاع وحدها بسلطة الأمر الواقع، أو أن تتسلم حكومة الوفاق الفلسطينية كامل سلطاتها بما فيها الملف الأمني.

كانت محاولة اغتيال رئيس الحكومة «رامي الحمد الله» ورئيس الاستخبارات الفلسطينية «ماجد فرج» في غزة تسميماً جديداً للعلاقات بين «فتح» و«حماس»، رغم أن الأخيرة تعقبت وقتلت زعيم الخلية الإرهابية.

إنهاء الانقسام الفلسطيني خطوة أولى لبناء موقف سياسي موحد.

وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية تعبيراً عن وحدة الشعب والقضية خطوة ثانية. وصياغة برنامج مرحلي لا محالة خطوة ثالثة بالتوافق العام يُكسِب الفلسطينيين تماسكاً يحتاجونه في مواجهات قاسية مقبلة لا محالة.

 

عن جريدة "الخليج" الإماراتية