المسيرة وحلم العودة الكبرى قراءة في تجربة مارتن لوثر كينج

thumb (4).jpg
حجم الخط

 

 

 عندما تحدث السيد إسماعيل هنية إلى جماهير مسيرة العودة في 10 إبريل الماضي، وظهرت خلفه لافتة كبيرة عليها صور لبعض القادة الذين اعتمدوا أسلوب المقاومة اللاعنفية في العالم، ومنهم: القس مارتن لوثر كينج؛ المناضل الأمريكي المعروف، والذي قاد الحراك الشعبي في بلاده في الخمسينيات والستينيات ضد سياسات الاضطهاد والتمييز العنصري، الذي يتعرض له السود هناك.. كان السؤال الدائر على ألسنة الجميع: وما علاقتنا نحن الفلسطينيين وحماس بهذا الزعيم والقس النصراني حتى نستدعيه لمسيرتنا ونستشهد به؟!
ربما بدا السؤال منطقياً لجهة الشارع، حتى وللكثيرين من كوادر حركة حماس والإسلاميين المشاركين في مسيرة العودة، فالاسم غير متداول في أدبياتنا الإسلامية وحتى النضالية، فما معنى ظهوره الآن؟ وما هي القيمة المضافة لشخصية أمريكية (مسيحية) كانت مسيرتها النضالية تتعلق بقضايا دفع الظلم، الذي لحق بالأقلية السوداء، جراء سياسات التمييز العنصري، ومطالبها بتحقيق المساواة والحقوق المدنية؟
لا شك أن هذه الأسئلة وغيرها تبدو مشروعة، وطرحها كان موضوعياً؛ لأننا تعودنا كإسلاميين أن نستدعي تاريخ رجالات أمتنا الإسلامية، ومن صنعوا صفحات مجدنا التليد، كالسلطان قطز والظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي، وكنا نأتي على ذكر أسمائهم لنبعث في الأمة روح العزة والانتصار. فأين ذهب كل هؤلاء لكي نأتي بهؤلاء الأغراب عن ثقافتنا؛ المهاتما غاندي ونلسون مانديلا ومارتن لوثر كينج، كنماذج نضالية للتعبئة والاقتداء!!
نعم؛ علينا أن نقر ونعترف كإسلاميين بأن هناك قصوراً في تحصيلنا العلمي وقراءتنا للتاريخ، وأننا اقتصرنا في عملية التوعية والتثقيف على تاريخنا الإسلامي في عصوره الزاهية، ولم نُعمِّق البحث لتوسعة قدرات الرؤية بالتجارب الإنسانية الأخرى، والتي إذا ما أمعنا النظر فيها فسوف تقودنا إلى فهم معركة الوجود وخارطة الصراعات التي خاضتها الشعوب والأمم لنيل حريتها واستقلالها، بعيداً عن لغة السيف والعنف، واحتاجت معها بعض الشعوب إلى صبر جميل، وتحمل الكثير من الأذى إلى أن تحقق لها بالنضال السلمي كل ما تريد.
اليوم، ومع هذه العناوين النضالية كغاندي ومنديلا ومارتن لوثر كينج، فإننا نضيف إلى صفحات تاريخنا الإسلامي بأحداثه المجيدة صفحات نضالية أخرى، كانت مؤثرة وفاعلة في استنهاض الضمير العالمي لنصرة المستضعفين والمظلومين من شعوب هذا العالم، وفضح قوى الاستكبار والعدوان، وجمهوريات الخوف التي تستأسد فيها الدكتاتوريات والاستبداد.
لا يمكنني تجاهل ما كان يتعرض له البعض – وأنا منهم - من اتهامات عندما كان يجري الحديث عن ضرورة تبني هذا الخيار ضمن أساليبنا النضالية، ولكن يبدو ولاعتبارات لها علاقة بنظرتنا إلى قدراتنا كأمة إسلامية كانت تحول دون تخيل اعتماد مثل هذا الأسلوب، الذي هو من وجهة نظر الكثيرين في التيار الإسلامي سلوك "انبطاحي"، ولا يجدي نفعاً مع هذا العدو الصهيوني، الذي لا يفهم إلا سياسة العصا الغليظة؛ "العين بالعين والسن بالسن"، وأخذ الكتاب بقوة في التعامل مع صلفه وعدوان.
من هو مارتن لوثر كينج؟
مارتن لوثر كينج هو رجل دين وناشط سياسي إنساني، وقائد عظيم في حركة الحريات المدنية داخل المجتمع الأمريكي، ومناضل ضد التفرقة العنصرية في أمريكا، حيث قاد نضال الأقلية السوداء منذ منتصف الخمسينيات وحتى اغتياله عام 1968.. وقد حاز كينج على جائزة نوبل للسلام سنة 1964، تكريماً لجهوده في مكافحة العنصرية وسياسات التمييز ضد الزنوج بوسائل سلمية، مثل: العصيان المدني والخطابات والاحتجاجات الجماهيرية، دون أن يستخدم العنف أو يدعو إليه. 
مارتن لوثر كينج: بداية النضال وإنجاز المهمة؟
في أول تحرك رئيس للدفاع عن الحقوق المدنية، قاد كينج مقاطعةً لجميع سيارات الأتوبيس الموجودة في محافظة مونتجومري.. بدأت هذه المقاطعة عندما رفضت "روزا باركس" أن تتخلي عن مقعدها في الحافلة لـرجل أبيض. ونتيجة لذلك، قام كينج بمقاطعة نظام النقل العام، واستمرت المقاطعة لأكثر من سنة، وكان الأمر متوتراً للغاية في بعض الأحيان، وقد تمَّ اعتقال كينج وتدمير منزله جراء ذلك.. ولكن في النهاية، انتهى التمييز العنصري بين ذوي البشرة السوداء والبيضاء في حافلات المحافظة.
وفي عام 1963، ساعد كينج في تنظيم مسيرة شهيرة إلى واشنطن، حضرها أكثر من ربع مليون شخص، وكانت بعنوان: "مسيرة واشنطن من أجل العمل والحرية"، وذلك في محاولة لإظهار أهمية إصدار تشريعات لـلحقوق المدنية، وكانت هناك بعض القضايا التي طالبت المسيرة بتحقيقها، مثل: وضع نهاية للتفريق بين الطلاب في المدارس العامة، والحماية من سوء معاملة الشرطة، وإنشاء قوانين تمنع التمييز في العمل.
في تلك المسيرة التاريخية، كان خطاب مارتن لوثر كينج الشهير "لدي حلم"، والذي أصبح واحداً من بين الخطابات الأكثر شهرة في التاريخ الأمريكي. لا شك أن تلك المسيرة وخطاب مارتن كانا ناجحين، حيث تمَّ إنشاء قانون الحقوق المدنية بعد ذلك في عام 1964.
لديّ حلم.. كانت هي العبارة التي ارتبطت بمفجر حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة؛ مارتن لوثر كينج.. وكانت هذه المسيرة ملهمة للجميع، حيث كان السود محرومين حتى من الأحلام، لكن كينغ عمل على تحقيق حلمه وحلم الملايين منهم.
أمريكا وفلسطين: وجه الشبه والمقاربة النضالية
لقد كانت جمعة "الشباب الثائر" فيها الكثير من الجُرأةِ والتحدي، والإحساس بأننا إلى الوطن وحلم العودة إليه أقرب.. صحيحٌ؛ أن هناك من بين هؤلاء الشباب من أخذه الحماس، وانطلق غير هيَّاب ولا وجل لقطع الأسلاك الشائكة وتجاوزها، وتنسم تراب الوطن المحتل، وتذوق نشوة الانتصار.. إن ملامح وجوه هؤلاء الشباب وأنت تتفرَّسها بين الجموع الحاشدة، تقول لك: سنحقق العودة رغم أنوفهم، وسنعود إلى أرض الآباء والأجداد.
تذكرت مارتن لوثر كينج وهو يخطب في جموع السود في أمريكا، ويبشرهم بما لديه من حُلم، إنها نفس القوة والعزيمة والإصرار التي كنت شاهدتها على وجه أحد الشباب الذي عاد إلى خيمتنا مبتهجاً، ليروي لنا كيف أزالوا السلك الشائك وكيف هرب الجنود.
قد لا يعرف هؤلاء الشباب من هو مارتن لوثر كينج؛ أيقونة المدافعين عن حقوق السود في أمريكا، ولكن بعضهم سجل بمواقفه وشجاعته نماذج وأيقونات وطنية سيخلدها التاريخ.
إن ما يجمعنا بكينج هو ذلك الإصرار على تحقيق الحلم، وأن تعود أرض فلسطين المباركة لأهلها، وكما كانت عبر التاريخ مثابة للناس وأمناً، أرض الأنبياء والمرسلين والتي تعانقت على ثراها عبر التاريخ كل الديانات الإبراهيمية السمحة: الإسلام والمسيحية واليهودية.
يوم العودة هو يوم العيش المشترك والتسامح والتغافر، هو يوم أن يجمعنا هذا الوطن؛ بأرضه المباركة وتراثه ومقدساته، وبتنويعاته الدينية والعرقية والثقافية بهوية وطنية واحدة يشعر فيها الكل من خلال مواطنته بأن مستقبله وأبنائه لن يهددها بعنصريته أحد. 
ختاماً.. لكل شعب تجربة تختلف من بلدة لأخرى، وليس بالضرورة ما نجح في أمريكا أو الهند وجنوب أفريقيا أو إيرلندا أن ينسحب على تجربتنا الفلسطينية. هذه مسألة بدهية لا خلاف حولها، ولكن ما عليه اتفاق هو أن قراءة تجارب الآخرين فيها الكثير من الدروس والعبر وأساليب النضال، التي يمكن أن نتعلم منها وتفيدنا في التسديد والمقاربة، لضمان استقامة المسار، وأنه سيأتي أكله في نهاية المشوار.
لقد انطلق مارتن لوثر كينج في مسيرته النضالية الطويلة بأفكار وقناعات محددة، والتي جلَّاها بعبارته أو خطبته الشهيرة: (لديَّ حُلم – I Have a Dream)، ولم يبتعد كثيراً عن هذا الهدف، وهو أن يرى حُلمة حقيقة لا خيالاً، بأن ينال السود في أمريكا حقوقهم المدنيَّة، أسوة بالآخرين من الأنجلوساكسون والأقليات العرقية الأخرى.
بالتأكيد، لم يكن يخطر – آنذاك - في بال مارتن لوثر كينج ولا حتى في أحلامه، أن يأتي اليوم الذي يحكم فيه أمريكا - ولثماني سنوات - رجل أسود بوزن "باراك أوباما". 
نعم؛ لم يمض أكثر من خمسين عاماً، إلا وامتلأت ساحات أمريكا بالمشاهير من السود في كل المجالات؛ السياسة والرياضة والاقتصاد والإعلام والفن والفلسفة.
مع مسيرة العودة الكبرى، يجدد شبابنا - اليوم - الحلم والعهد مع الأبناء والأحفاد بأن حقنا في العودة إلى أرض الآباء والأجداد هو جنين هذا الواقع، الذي تجسده هذه الحشود الثائرة على خط الحدود.
إن مسيرة العودة الكبرى، التي يقودها هؤلاء الشباب بدعم ومباركة الجميع من العائلة إلى قادة الفصائل، هي في الحقيقة أكبر من حُلم وأقل من ملحمة، هوي رسالة للعالم وللمجتمع الإسرائيلي بأن هناك شعباً يعاني من الظلم والحصار والاحتلال، وهذا الشعب الفلسطيني يطالب بحياة حرة كريمة على أرضه، وليس في وارد هذه الحشود خوض معركة "هارمجدون" مع المحتل الغاصب، ولكنها رسالة قوية بأن هناك شعباً قد اغتصبت أرضه التي هي خلف هذه الأسلاك الشائكة، وأنه لن ينسى يوم عودته إليها سلماً أو حرباً؛ لأن "حق العودة" يعني عودة الحق، والحقوق - تاريخياً - لا تسقط بالتقادم.