08 تموز 2015
يبدو أن العرب، ليسوا وحدهم ممن لا يقرؤون، وتحديداً لا يقرؤون تاريخهم، كما يبدو أن هناك صفات مشتركة أكثر مما كنا نعرف بين العرب والهنود، غير تلك التي طالتها النكات الساخرة، فالهنود، أيضاً، لا يقرؤون، ونقول ذلك بمناسبة امتناع الهند عن التصويت لصالح تقرير مجلس حقوق الإنسان المتعلق بالحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، الأمر الذي فاجأ الفلسطينيين والعرب وبعض الإسرائيليين ومعظم الهنود.
ويمكن سرد تلك المواقف المتعددة والمتكررة التي وقفت الهند، بشكل دائم ومستمر إلى جانب القضايا العربية عموماً، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، الهند شريكة يوغسلافيا ومصر، نهرو وتيتو وعبد الناصر، في تأسيس حركة عدم الانحياز، هذه الحركة التي شكلت أحد أهم مراكز الدعم السياسي وقيادة العالم الثالث، للوقوف إلى جانب قضية فلسطين، وكافة قضايا التحرر والسلام، وحتى بعد أن تم التبادل الدبلوماسي بين الهند وإسرائيل عام 1992، ظلت الهند، على عادتها التلقائية بدعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
لكن قبل كل ذلك، وحتى في العهد الاستعماري، كانت الهند تقف إلى جانب القضية الفلسطينية، حتى قبل أن تقوم دولة الهند الحديثة بزعامة المهاتما غاندي، كان لهذا الزعيم رؤية خارقة تجاه القضية الفلسطينية منذ عام 1938، فأثناء مقاومة هذا الزعيم للاحتلال البريطاني، بالوسائل غير العنفية، كانت القضية الفلسطينية إحدى انشغالاته، ربما بسبب علاقاته الوطيدة مع عدد كبير من المتنفذين اليهود أثناء إقامته في جنوب أفريقيا، ربما لشعوره بأن اليهود، كالسود والملوَّنين مضطهدون في جنوب أفريقيا في ظل نظام التفرقة العنصرية في ذلك الوقت، جمعت علاقات وطيدة بين المحامي غاندي، ومجموعات يهودية في جنوب أفريقيا، الأمر الذي أدى إلى أن بعض المحلّلين اعتقدوا أن غاندي كان مؤيداً لما كان يُعرف «بالمسألة اليهودية» وما تعنيه من إقامة دولة يهودية في فلسطين، هناك خلط واسع في هذا السياق، أدى إلى فهم خاطئ إلى حد بعيد جداً.
كتب غاندي مقالة شهيرة في صحيفة كان رئيساً لتحريرها في الهند عام 1938، يشير فيها إلى سبب علاقاته مع اليهود، يقول حرفياً: «إن تعاطفي مع اليهود، تعاطف تام، هناك أصدقاء لي على مدى الحياة، وقد قرأت عن اضطهادهم الطويل، وقد كانوا منبوذين من المسيحية، وكان التشابه بين معاملة المسيحيين لهم ومعاملة الهندوس لطبقة المنبوذين قريباً جداً، وكانت مقاطعتهم تستند إلى حجج دينية تسوغ المعاملة غير الإنسانية التي لحقت بهم».
يبدو أن من قرأ هذه الفقرة، واكتفى بها، حدد موقفه إزاء أقوال غاندي هذه، ونسج على ما اكتفى باقتناصه من مقالة غاندي الطويلة، لكي يحدد رأياً متسرعاً، لا يمكن وصفه إلاّ بأنه خاطئ تماماً، ذلك أن غاندي استكمل مقالته، بعد أن شرح أسباب علاقاته الوطيدة مع اليهود، ليقول في ذات المقالة «غير أن تعاطفي هذا لا يعميني عن متطلبات العدالة، لأن بكاءهم من أجل الوطن القومي لليهود لا يروقني كثيراً»، إن الإذن بهذا الوطن متجذر في الكتاب المقدس، وفي الإصرار الذي يتوق به اليهود العودة إلى فلسطين، فلماذا لا يتخذون، كغيرهم من شعوب الأرض، وطناً لهم من البلدان التي ولدوا فيها والتي يكسبون فيها عيشهم»!! وإذا كان هذا الرأي غير كاف لإثبات الموقف الحازم للمهاتما غاندي، صديق اليهود، إزاء «المسألة اليهودية» ونفي حق اليهود في فلسطين، فإن ما استكمله في مقالته المشار إليها، كاف تماماً لتأكيد وقوف المهاتما مع الشعب الفلسطيني، حتى قبل أن تتحرّر الهند عام 1947، وقبل قيام الدولة العبرية بعد ذلك بعام واحد، ذلك أن المهاتما شرح في فقرات لاحقة موقفه بالقول إن فلسطين للفلسطينيين مثلما إنجلترا للإنجليز، وفرنسا للفرنسيين، وان ما يحاول اليهود فرضه في فلسطين لا يمكن تسويغه بأي قانون أخلاقي، ويضيف حرفياً: «إن تحويل أرض العرب الأباة الذين تمتلئ بهم فلسطين، إلى اليهود، كلياً أو جزئياً، على أنها وطنهم القومي، إنما هو جريمة ضد الإنسانية»!
في فقرة لاحقة يقول غاندي، إن تعاون اليهود مع الاحتلال البريطاني في فلسطين يجعلهم شركاء في سلب شعب لم يرتكب بحقهم أية خطيئة... أكثر من ذلك، ورغم تبني غاندي لمفهوم اللاعنف، فإنه تحدث بشكل واضح، وهو أمر لافت للغاية، عن مقاومة العرب في فلسطين للاستعمار البريطاني فيقول حرفياً، أيضاً : «طبقاً لقوانين الحق والباطل المعتمدة، لا يمكن أن يقال شيء ضد العرب بشأن مقاومتهم هذه».
وربما هناك بعض السخرية اللاذعة، موجهة لليهود في هذه المقالة: «لنترك لليهود، الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار، أن يختاروا اللاعنف للدفاع عن مكانتهم على الأرض».
قلة من الهنود، ربما لا يعرفون هذا التاريخ، وكثرة من العرب كذلك، لكن موقف الدولة الهندية الرسمي، الأخير، يندرج في إطار رؤية الدولة الهندية لمصالحها، وهو الأمر الذي يتجاوز العلاقات مع إسرائيل إلى ما يتعلق بالطموحات الكبرى للهند، وهنا لا بد من عودة إلى هذه المسألة!!