أدّعي أنني أنفقت وقتاً طويلاً في البحث والتنقيب والجمع، لأرسم صورة قريبة من شاعرنا الكبير إبراهيم طوقان، صورة تشبهه أو صورة لا ينكرها ولا ينكرها غيره ممن عرفه عن قرب أو عاش معه أو قرأ له.
كانت الصورة التي حاولت أن أجمعها لهذا الشاعر الفذّ تقوم على عدة ركائز تمثلت في: سخريته النافذة والمرَّة والكاشفة والكاوية، وهواجسه التي توزعت بين حبّ الحياة والخوف من الموت، ومواقفه السياسية والوطنية، ومصادر ثقافته المتنوعة، وكيف ظهر ذلك كله في شعره ومقالاته ورسائله.
كان هذا عملاً احتاج مني سنين عديدة، وجهداً كبيراً لجمع أوراقه ومقالاته، وقراءة ما كتب عنه، وشاركني في ذلك أصدقاء كثر ولا أنسى هنا الإشارة إلى ما قدمته لي شقيقة الشاعر أمي الراحلة الكبيرة فدوى.
الآن، وبعد أن صدر كتاب "حدائق ابراهيم" الذي كتبتُ فيه كل شيء عن ابراهيم، هل يمكنني القول: إنني نجحت في رسم بورتريه لهذا الشاعر الكبير؟! وهل استطعت حقاً أن ألمّ بعالم هذا الشاعر الكبير، وأن التقط حقاً هواجسه الأعمق وأن أمسك ذبذبات روحه الأَرَقّ والأشفّ ؟!
ربما تكمن مشكلة الدراسة الأكاديمية في أنها لا تلتفت إلى الهامشي أو أنها لا تحتفل بذلك الغامض المستتر أو ذلك الذي لا يمكن التدليل عليه وإثباته. ربّما كان هذا النقص الوحيد في دراستي لهذا الشاعر الكبير الذي لم يكن يشبه شعراء جيله.
ربّما أغراني المنهج الأكاديمي لأنْ أُلاحق المعروف والمكشوف والواضح، وحرمني متعة أن أغوص في أعماق شاعر عاش في وطن على شفا الهاوية دائماً، وعاش في مجتمع مهدد بضياع الهوية وارتباك الاتجاه.
كيف لي أن أتلبس روح هذا الشاعر وجسده وهو يعيش بين شفرتين طيلة الوقت، شفرتي الموت والحياة، وشفرتي التفكك والبناء، وشفرتي الطبقة والمجتمع، وشفرتي السمسار والشهيد، وشفرتي الحب والشبق، وشفرتي المسئولية والعبث.
الحقيقة أن هذا الشاعر يغريني دائماً بالتساؤل الأبدي: من هو الشاعر بالضبط ؟! والحقيقة أيضاً هي أنني أشعر أنني مقصر في الكلام عن هذا الشاعر الذي صار مع الوقت جزءاً من روحي، ولم يعد بالإمكان أن أتخلص من تأثيره عليّ وهيمنته على ذائقتي.
وكيف لي أن أفهم دوافع هذا الشاعر الكبير الذي اضطره شعره إلى التخلّي عن طبقته أو عن أرستقراطيته لينزل إلى الشوارع والحواري، وأن يحول شعره إلى ما يشبه اللهجة الدارجة؟!
لماذا لم يكن الشاعر ابن طبقته؟!
ولماذا لم يكن تغريبياً على منوال غيره من المثقفين في العشرينيات والثلاثينيات؟! ولماذا لم يركن إلى حزب من الأحزاب القريبة من السلطة الانتدابية؟!
ولماذا لم يتورط في تجارة أو مشروع أو وظيفة تريحه وتكفيه شر العمل والتنقل وهو المريض المعتل!!
ولماذا لم يتنكر لثقافة أمته ومشروعها وهو خريج جامعة ليبرالية في وقت مبكر؟! أسئلة كثيرة نسألها ونحن نستذكر الشاعر الكبير، تساعدنا لإكمال التفاصيل الصغيرة في البورتريه المفترض لشاعر إشكالي تماماً!!
وللإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد من إيجاد أو البحث عن تلك العلاقة بين الخيار الشخصي والخيار العام، بين الموقف الإبداعي والموقف الإنساني، بين الشعر والحياة!! بين ما نريد وما يراد لنا، بين ما نرغب وما نجبر عليه. الإنسان وعي ومن ثم موقف وخيار.
الإجابة الأولية لمثل هذه التساؤلات تتمثل في فلسطين، ذلك الوطن الباهظ الثقيل، المزدحم بالتاريخ وأوهامه ومقدساته وتابوهاته. فلسطين بلد قلق، هكذا أراده الله، وهكذا يكون. الأمكنة المقدسة هي أكثر الأماكن اضطراباً وثقلاً واختلافاً، أما فلسطين فهي البلد التي أحبها قَتَلَتُها وغُزاتها، أيضاً. وقد تعود أهلها اختلاف الزمان واضطراب الوقت. ليس هناك من أرض اختلف عليها الناس كما في فلسطين، حتى في عهود القوة والمنعة تمزقت فلسطين بين دولتين كبيرتين الأولى في بغداد والثانية في القاهرة، هل كان ذلك التغييب هو الذي دفع المقدسي – ذلك الرحالة الكبير – إلى أن ينسب نفسه إلى فلسطين في نهاية القرن العاشر الميلادي، وأن يكتب بالتفصيل كيف يبني الفلسطينيون بيوتهم بالحجارة والخشب. بالتأكيد أن فلسطين كوحدة ديموغرافية وجغرافية ولدت قبل الانتداب البريطاني كما أشار الخالدي، فهذا المقدسي يشير إلى أصله الفلسطيني صراحة في كتابه: " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" فيقول رداً على سؤال رجل شيرازي بالقول:- لا، أنا فلسطيني".
ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: " ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً، دعيت وخوطبت بها: مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي... وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها وكثرة المواضع التي دخلتها".
هذا الكلام قيل قبل ألف عام تقريباً، وقد سقت ذلك لأخلص إلى القول: إن فلسطين المحددة ديمرغرافياً وجغرافياً عرفت نمطاً حضارياً موحداً ونسقاً ثقافياً ثابتاً تواصل واستمر وتطور باسمه ورسمه الفلسطيني حتى وصل إلى شاعرنا الكبير إحساساً عارماً وعميقاً وقوياً بالمكان وقدسيته وإشكالياته ومتاعبه وثقله وموته ورعبه.
لقد احتمل شاعرنا مكانه، وعبّر عنه وحماه ودافع عنه، إن لوحة جمل المحامل التي رسمها سليمان منصور وفيها رجل عجوز يحمل القدس على كاهله تعني لي أكثر من لوحة عادية، إن حمل الوطن في القلب وعلى الكاهل مهمة ثقيلة وتفترض الانحياز الكامل الذي يلغي الألوان كلها، ما عدا الأبيض والأسود. وهكذا كان شاعرنا الكبير إبراهيم طوقان في شعره متطرفاً في كل شيء، في السياسة والحب والحياة والشعر. هل أقول هنا حقاً عن هذا الشاعر؟! هل كان متطرفاً ككل مبدع حساس وشفاف أم أنه كان شخصاً ذا عقلية مرنة تميل إلى التسوية؟! نجد في شعره الجواب!!
يفاجئنا هذا البيت من الشعر الذي يعلن فيه عدم انتمائه إلى حزب أو زعيم. إذ يقول
إن قلبي لبلادي لا لحزب أو زعيمِ
غايتي خدمة قومي بشقائي أو نعيمي
إن مثل هذا الموقف الذي يبدو من خارجه محايداً يعكس موقفاً غير مألوف في عصر الشاعر الذي كان الاصطفاف فيه على أشده ما بين العائلات القوية والأحزاب والحركات السياسية المقاومة والمنضوية تحت لواء الانتداب. في لحظة من اللحظات انقسمت البلاد كلها بين ما سمي في حينه "المجلسيين" و"المعارضين"، وكان على عشيرة الشاعر أن تحدد انتماءها لأسباب لا تخفى، ولكن الشاعر يفاجئنا أنه لا ينتمي سوى لوطنه فقط. والشاعر يفاجئنا أيضاً – وأعتقد أنه فاجأ معاصريه أيضاً – عندما يقول مجاهراً بأعلى صوته:
بني وطني، هل يقظة بعد رقدة هل من شعاع بين تلك الغياهب
فوالله ما أدري ولليأس هبة أنادي (أميناً) أم أهيب (براغب)
في وقت من الأوقات مثّل الحاج أمين الحسيني رمز الحركة الوطنية الفلسطينية وكان عنوان تلك المحاولات المبكرة لإقامة كيان فلسطيني، وقد اجتهد على طريقته في ذلك، ولسنا هنا بصدد تقييم رؤى هذا المناضل أو اجتهاداته، أما راغب النشاشيبي فقد مثّل هو الآخر اجتهاداً مغايراً لطبيعة مقاومة المحتل الإنكليزي وشكلِهِ وأسلوبِهِ، كان هذان الرجلان يمثلان فعلاً وجهي الحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف اجتهاداتها ومساراتها، ولكن الشاعر الكبير يعلن هنا يأسه من الرجلين، ومن الاجتهادين، ومن الأسلوبين.
هل كان يعرف هذا الشاعر أنه يفضح طبقته؟! وهل كان يعرف هذا الشاعر أنه كان شاهداً على إجهاض ميلاد الدولة الفلسطينية في الأربعينيات؟! وهل كان يعرف أنه كان شاهد العيان على ما لحق بتلك النخبة التي قادت الفلسطينيين في تلك الفترة، يقول الشاعر عن تلك الفترة ما لم يقله أحد:
وهناك سمسار البلاد فإنه الشهمّ الأغرُّ
هل هناك ما هو أقسى وأصرح وأشد من ذلك؟! هل يرى الشاعر غير لونين في وطنه الذي وصل إليه عبر القرون ليقول عنه:
ليست فلسطين الرخية غير مهد للشقاء
عُرضت لكم خلف الزجاج تميس في حلل البهاء
هيهات ذلك إنّ في بيع الثرى فقد الثراء
أليست هذه الأبيات هي لوحة جمل المحامل لسليمان منصور، الذي وضع صورة القدس في كيس من الزجاج أيضاً، ونثر حولها اللون الأصفر، لون المرض والشقاء. أليست هذه الأبيات صريحة بإشارتها إلى ثقل المكان وقدره وموته ورعبه الأبدي.
إن إحساس الشاعر بمكانه الفريد والذي خصص له أجود شعره وأعلاه دفعه إلى أن يكون متطرفاً كعادته في كل شيء. أنا أصر هنا على مفردة التطرف باعتبارها تصف حالة الشاعر وكينونته، قد يقول قائل: إن الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة سيجبرون على أن يتصرفوا بحكمة واعتدال وانضباط، ولكن شاعرنا لم يفعل ذلك، ولم ينصع لأوامر الأطباء. في إحدى رسائله يكشف دون قصد عن ذلك بقوله: إنه سيأكل ما يريد حتى يدخل العملية. أي أنه سيغافل الأطباء وسيغافل جسده وسيغافل كل شيء ليفوز بلذة ما. ليذهب إلى أقاصي المتعة والإحساس بالحياة. كان متطرفاً مع جسده ومتطرفاً مع النخبة التي ينتمي إليها.. ومتطرفاً حتى في أحكامه النقدية ومعاركه الصحفية التي خاضها هنا أو هناك.
ولأنه كان دائماً على الحافة من كل شيء، فقد رأى في الثورة والثوار صورة منه، أو وجد أنهم يمثلون ما يسعى ويصبو إليه. ولهذا فقد مجَّد الثورة ومجد الثوار كأناس يتحدّون الزمن والجسد والظلم والمعوقات كلها. ومن عجب أنَّ وصف الشاعر للثوار لم يتجاوز ذلك أبداً. وكان الثائر بالنسبة إليه فوق الزمن وفوق الجسد، أي أنه القادر المسيطر والضابط لكل شيء، ولأن الأمر كذلك، فقد احتفل شاعرنا بالثائر كثيراً ومجدّه كثيراً في التفاتة تثير العجب من شاعر عرف عنه حبه للحياة واحتفاله الشديد بها.
كان الثائر والشهيد بالنسبة للشاعر نقيضاً لكل ما يكره، وصورة لكل ما يحب وينتمي، ليس على المستوى السياسي والوطني فقط، وإنما على المستوى الوجودي، أيضاً. لنستمع إلى الشاعر كيف يفضح النخبة السياسية في حينه:
وطني مبتلى بعصبة (دلالين) لا يتقون فيه الله
في ثياب تريك عزاً ولكن حشوها الذل والرياء سداها
ووجوه صفيقة ليس تندى بجلود مدبوغة تغشاها
وصدور كأنهن قبور مظلمات قلوبهم موتاها
حسبوا في الرجال، هل كانت الأنعام إلا لمثلهم أشباها
إن نزع الرجولة عن مثل هؤلاء يتعدى الموقف السياسي إلى الموقف الوجودي الذي كان يشغل الشاعر دائماً، الرجولة المسيطرة الطاغية القادرة على الفعل والإثارة والانتصار. ولهذا عندما يرسم صورة الثائر والشهيد مقابل هؤلاء، فإنه يقول عنه:
وأخو العزم لم يزل يده تسبق الفما
ويقول كذلك:
وشبا الأسنة فيه ألسنة إذا نطقت فمنطق سؤدد وسدادِ
فكرة الرجولة القادرة المسيطرة كانت تشغل الشاعر وتسيطر عليه، ليس فقط من منظور الذكورة وإنما بمفهومها الأعمق، باعتبارها الموقف التاريخي الذي يجب أن ننحاز إليه دون تحفظ. وقد قاده تطرفه في هذه الفكرة إلى أن يتورط في قصائد اعتبرت جارحة و خارجة، وأعتقد أن ذلك ما كان لولا أنَّ هذا الشاعر رأى الحياة بلونيها الأساسيين فقط، الأبيض والأسود، بمعنى أن هناك سمساراً وهناك شهيداً، هناك رجلاً وهناك امرأة، وأن هناك حياةً وهناك موتاً. وهكذا فعل إبراهيم وهكذا عاش، يذبح على هذه الشفرة وعلى هذه الشفرة، حتى وطنه الرخي فهو مهد للشقاء أيضاً..
ولكن، هل كان إبراهيم طوقان حالة ثقافية تمثل لحظة الخروج من زمن إلى زمن، ومن مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى!! وهل كان بمثابة المثقف الذي قدم لنا صيغة أو معادلة مبدعة لمزج القديم والحديث، واندغام الحداثة بالأصالة كما يقولون!!
وهل استطاع بإبداعه الشعري أن يقدم لنا صيغة مبدعة أو توفيقية أو تلفيقية للثقافة الوافدة والثقافة المتوارثة؟!
وهل شغل شاعرنا الكبير نفسه أصلاً بتحديات وأسئلة الوافد الغريب والأجنبي أم أنه انشغل بمشاكل وطنه ومجتمعه!!
إن شعره يقدم إجابات معينة، إذ إنَّ شعره متعدد الأغراض والأشكال ومتنوع الإيقاعات يقدم جدلاً شديداً بين المبدع وعصره وأسئلته. فالقصيدة العربية في الثلاثينيات والأربعينيات كانت تمر بمرحلة المقارنة والمقايسة مع الشعر الغربي المترجم، وكانت تسعى أيضاً، إلى أن ترد على الحركية التاريخية السريعة في فلك السنوات وكان عليها، أيضاً، أن تستوعب ما يجري حولها من تغييرات حقيقية على مستوى المجتمع والعلم.
انقلابات القصيدة العربية في الثلاثينيات والأربعينيات والتي أتت أُكلها بشكل واضح وجلي في الخمسينيات، جعلتْ من الشعراء باحثين عن موضوعات وأشكال وإيقاعات ومفردات. أما شاعرنا الكبير، فقد انتبه بسرعة إلى ذلك الجدل والاشتباك، وهو الذي عاش في بيروت وبغداد، ولهذا فقد حاول أن يقيم لنفسه قصيدة خاصة به.
لا تغادر القديم الجميل الموسيقي المنضبط، ولكنها لا تعاند المعاصر الذكي والعميق، وعلى الرغم من تطرف شاعرنا الكبير في كل شيء، فإنهُ لم يغامر أبداً بمغادرة القديم، لقد نوّع وجدّد في أشكاله ولكنه أبقى على مضامينه كما هي، جدد في مبنى القصيدة، استغنى عن صالونات كثيرة، وشرفات وأبهاء، وربما ضّيق قليلاً في الفناء الخارجي واختصر كثيراً من الجدران، ولكنه أبقى قصيدته بيتاً حجرياً في بستان أخضر، قد يكون ذلك البيت صغيراً ورشيقاً وضيقاً ليس فيه حجرات كثيرة، ولكنه بيت أنيق يضج بالموسيقى والألوان. هو بيت خاص لصاحبه وهو أجمل ما فيه.
إبراهيم المغامر في كل شيء لم يغامر أبداً بثقافته المتوارثة، لقد وقف في الوسط من كل ذلك، ويمكن القول: إنه كان محافظاً في ثقافته وغير ذلك في سلوكه. وربما يمكن القول هنا: إن إبراهيم الذي غادر طبقته وفضح النخبة التي ينتمي إليها ونزل بشعره إلى الشوارع والحواري، وجهر بمعاداته للاحتلال والاستيطان وانحاز للثورة والثوار لم يستطع أبداً أن يفصل بين العروبة والإسلام على عادة الأحزاب التي نشأت في تلك الفترة وحاولت أن تضع الفروق والاختلافات. شاعرنا يقول دون أن يضع الخطوط والفواصل بين الأمرين:
ناديت قومي لا أخصص مسلماً أبناء يعربَ في الخطوب سواءُ
ويقول أيضاً:
إن الكتاب شريعة استقلالكم فتدبروه وأنتم الخلفاءُ
إن هذا التداخل في المفهومين يدل على أن إبراهيم طوقان لم يكن ينشغل في ذلك الحفر الفكري الذي انشغل به بعض المنظرين منذ أوائل القرن الماضي. أو قد يقال هنا: إن شاعرنا الكبير يعتبر أن دائرة العروبة والإسلام منطبقتان تماماً على بعضهما البعض أو هكذا يريد الأمر. وعلى كلٍ، فإن هذا يعني أن شاعرنا الكبير لم يغامر بخوض غمار فكر لا يريده ولا يحبه ولا يشغل نفسه به، وهو عندما يريد أن يدرس الشعراء القدماء أو يقدمهم في الإذاعة، فإنه يقدم شعراء واضحين ويميل إليهم، شعراء غير إشكاليين، وعندما يضطر للحديث عن المعري وهو الشاعر الإشكالي، لم يصبر شاعرنا كثيراً حتى قال عن أبي العلاء: "والذي أراه أن أبا العلاء تجاوز حدوده وأخطأ"، وقد يكون من المفيد القول: إن شاعرنا الكبير قدم الشعراء الذين جابهوا عصرهم وناقضوا الرأي السائد ثم ظهر أنهم كانوا على صواب في آخر الأمر، وكأني به يرى نفسه منهم وأنه ينتمي إليهم، والآن، وبعد مئة سنة على ميلاده نقول بكامل الثقة: إن هذا الشاعر كان مصيباً ومحقاً في كل ما قال عن وطنه وعن أمته، وإنه كان لسان قومه ورائدهم وحاديهم وعرّافهم. وهؤلاء هم الشعراء الكبار الذين لا يمضون ولا يذهبون من بيننا. إنهم قائمون معنا ليس بصدقهم فقط، ولا بنبوءاتهم أيضاً، وإنما بذلك الإحساس العميق الجارف الذي يحتاج إلى أزمان عديدة وأجيال كثيرة ليوّزع عليهم بالتساوي. الشاعر الكبير ثروة جمالية وتذوقية وحضارية وقومية كبرى، ولهذا نفهم الآن لماذا كانت القبائل تتزاور فيما بينها عندما يظهر شاعر ذو شأن بينهم. لقد كانوا يعرفون أنهم يولدون من جديد، أو أنهم سيولدون في كل جيل وفي كل آن ومكان أيضاً.
شاعرنا الكبير طوقان، كان حالة ثقافية فلسطينية أولاً، ذلك أنه أوقف شعره على أرضه ووطنه وشعبه، ولم يؤخذ بالغريب ولا بالوافد، ربما لأن الغريب والوافد كان مستوطناً ومحتلاً، ولم يناقش الفلاسفة ولا المفكرين، ربما لأن ذلك كان من الترف في وطن يسرق كل يوم، لنستمع إليه يقول معدداً وسائل هجرة اليهود:
يهاجر ألف .. ثم ألف مهرباً ويدخل ألفٌ سائحاً غير آيب
وألف (جواز) ثم ألف وسيلة لتسهيل ما يلقونه من مصاعب
وفي البحر آلاف.. كأنَّ عبابه وأمواجه مشحونة في المراكب
الكلام هنا يشبه الكلام العادي، كلام اشتباك، كلام فيه تقرير وتثبيت، كلام يبدو جزءاً من كلام آخر، الواقع فيه حارق وصادق حتى هذه اللحظة وحتى لحظة تحرير البلاد، هذا كلام لن يتوقف عند جدل أو سجال فكري لا معنى له.
الواقع له أولوية. وكان إبراهيم شاعر الواقع تماماً.
ولأنه شاعر الواقع تماماً، فقد كانت مفردته واقعية أيضاً، لم يتأنق شاعرنا كثيراً ولم يبحث عن الأناقة إلا ما أتت عفو الخاطر ونتيجة لصفو الطبع وتوقد القريحة. إنه أشبه بهذا بالشاعر الكبير عرار الذي ابتعد عن النخبة التي ينتمي إليها، وكان أوضح – ربما – في إعلان مواقفه وانتماءاته.
إبراهيم طوقان الذي أنشد إلى ما يقال في الأرياف وفي أوساط الثورة والثوار والذي كان مرآة واقعه وتاريخه يقول ساخراً في قصيدة كان لها وقع كبير حتى هذه اللحظة:
أنت كالاحتلال زهواً وكبراً أنت كالانتداب عجباً وتيها
أنت كالهجرة التي فرضوها ليس من حيلة لقومك فيها
أنت أنكى من بائع الأرض عندي أنت أعذاره التي يدعيها
لك وجه كأنه وجه سمسار على شرط أن يكون وجيها
وجبين مثل الجريدة لما لم تجد كاتباً عفيفاً نزيها
وحديث فيه ابتذال احتجاج كلما نمّقوه عاد كريها
جمعت فيه عصبة للبلايا وأرى كل أمة تشتكيها
إن هذه القصيدة التي جمعت ما كره الشاعر وما ناضل ضده تعكس عمق ومدى اشتباك الشاعر مع واقعه وقدرته على السخرية منها وتحويلها إلى لغة مقاومة ولافتة ثقافية تنتشر بين الناس والجماهير والثوار.
من هنا كانت أسطورة هذا الشاعر، وكما قلت، لا بد للشاعر الكبير من أسطورة كبيرة، فهذا الشاعر غنى للثورة وغنى للحب، فضح الخائن والسمسار والكاذب، تنبأ وهمس وصرخ وانتحب وصلى في آن، ثم انطفأت شمعة حياته مبكراً، مات كالأبطال تماماً، غادرنا في لحظة توهجه، انكسرت أحلامه وأحلامنا، بصَّرنا بمأساتنا التي تقدمت إلينا بعلم دون أن ننتبه أو نستعد، كانت قصيدته قصة مأساة معلنة دون إن نتخذ الإجراءات أبداً. إن احتفالنا به هو جزء من ردودنا التي يجب أن تكون يوماً من الأيام. يقول شاعرنا وكأنه يقول ذلك، اليوم:
تمكن الذل من قومي فلا عجب ألا يبالوا بتقريع وتأنيب
ما أشرف العذر لو أن الوغى نثرت أشلاءهم بين مطعون ومضروب
أكثر من ثمانين سنة مضت على هذا القول وما زال صحيحاً وصائباً. ويقول أيضاً، وكأنه يتحدث عن حالنا هذا اليوم:
مثلُ القول لا يؤيده الفعل أزاهير لا يفوح شذاها
لا سمت أمة دهتها خطوب أرهقتها ولا يثور فتاها
إنه يصف لنا مأساتنا المعلنة، ويقدمها لنا كما هي بشعة وسوداء وكارثية وهو قاسٍ في ذلك فعلاً، ولكنها قسوة مبررة ومفهومة. فالوطن يضيع ويتسرب من بين الأصابع حبة وراء أخرى دون أن نحرك ساكناً.
إن هذا الشاعر الذي لم يلتحق بصفوف الثورة فعلياً كان واحداً من الثوارِ تماماً، وقد نصَّب نفسه ناطقاً باسمهم مصوراً أحلامهم وأحوالهم، ووفرّ لهم سنداً شعبياً وجماهيرياً وروحياً ووجدانياً أبد الدهر، وجعل من ذلك الصامت الثائر متكلماً أبداً، لقد رأى في الثورة خلاصه الشخصي وخلاص أمته ووطنه، ورأى في الرجولة بمفهوميها الجسدي والإنساني الرد التاريخي الحقيقي والمطلوب ليتجاوز اللحظة السيئة دائماً.
مات هذا الشاعر بعد أن كان شاعر عصره وفضيحته، وإذا كنا نحتفل اليوم بذكرى ميلاده فإننا نحتفل ليس بشخص الشاعر فقط، وإنما بمواقفه الصادقة الواضحة المشرفة، ونحتفل بالوجدان المنتمي للأرض والإنسان والتاريخ، ونمجد عملاً إبداعياً أصيلاً لم يداور أو يناور أو يجامل، بل اعتلى السقف الذي يجب أن يعتلي، لنبقى من بعده مشدودين إلى المثال والنموذج.
إبراهيم طوقان، الشاعر والإنسان، وبعد مئة وثلاثة عشر عاماً من ميلادك، نحن نتذكرك لأنك صوَّرت لنا ما كنا نخشى دون أن نحذر، والآن نتذكرك لنحذر مما نخشى.
***
رحل ابراهيم طوقان في القدس يوم 2-5-1941.
وهو من مواليد 1905في مدينة نابلس .