اعطوهم فرصة التعرف إلى وطنهم

صادق-الشافعي
حجم الخط

في مقال في "الأيام" في 23 أيار الماضي قدمت نموذجاً مضيئاً لشبابنا الذي يولدون ويعيشون خارج الوطن، ثم في لحظة الاختيار يختارون الوطن، وأعتقد أن هذا النموذج لا يشكل حالة استثنائية ولا نادرة فالكثير منا يعرف حالات شبيهة لا تقل عن النموذج الذي قدمت.
ليس المطلب أن يعود إلى الوطن ويستقر فيه كل من يستطيع ذلك، لكن المطلوب تملكيهم حق التعرف على الوطن وتشجيعهم على استمرار زيارته والتواصل معه ومع قضاياه ما امكن لهم ذلك، والهدف هو تعميق الانتماء إلى الوطن.
المسؤولية الأساسية هنا تبدأ بقيام الأهل بواجبهم تجاه أولادهم .
الموضوع طويل ومتشعب بسبب اختلاف الظروف وأماكن العيش وباختلاف الأوضاع: بين التهجير القسري، إلى الاغتراب أو الهجرة وراء لقمة العيش، إلى من يملكون حق العودة إلى بعض الوطن والعيش فيه من، مالكي الهويات، وبين من هم محرومون من هذا الحق بقوة الاحتلال. وهذا ما يجعل التعاطي معه لتحقيق افضل ما يمكن، يتطلب، إضافة إلى مسؤولية الأهل جهداً واسعاً ومبرمجاً تشارك فيه جهات عدة رسمية وشبه رسمية ومجتمعية باعتباره مهمة وطنية أولى.
فلا شيء أكثر أهمية لحفظ القضية الوطنية واستمرارها من تجذير الانتماء الوطني بشكل عام. ولا شيء اهم في هذا المجال من ربط النشء الجديد والشباب بالوطن وتقوية انتمائهم له، وفتح الآفاق لمن يرغب ويستطيع الاستقرار فيه في أي مجال وتحت أي مسمى ولأي فترة مهما كانت محدودة.
لا يمكن إنكار وجود مبادرات مجتمعية مقدّرة ومشكورة في هذا المجال ابدعها الناس وبعض المنظمات الأهلية على محدوديتها، (معسكرات صيفية، رحلات للتعريف ببعض المناطق).
لكن هذا الأمر مازال يحتاج  للتطوير وزيادة الانتشار والدورية والانتظام  في مجالات وحقول مختلفة ومتنوعة، مثل:
- تنظيم زيارات جماعية دورية لمجموعات من مناطق مختلفة خارج الوطن إلى أكثر ما يمكن من مناطق الوطن.
- إقامة معسكرات صيفية  منتظمة ودورية في أكثر ما يمكن من مناطق الوطن يشارك فيها  شباب وشابات من كل مناطق الوطن ومن خارجه، مع السعي المسؤول لتأمين متطلبات الدخول لمن لا يملكون إمكانية ذلك، ويمكن التوسع بعمل نفس الشيء خارج الوطن أيضاً.
-  زيادة استقدام الفرق الفنية والرياضية من الخارج للعرض والتباري في مناطق الوطن.
- عقد مؤتمرات مشتركة على ارض الوطن للاتحادات الشعبية والمهنية  والمنظمات الجماهيرية والمجتمعية وتأمين ما يلزم لتمكين المشاركين من الخارج الدخول والمشاركة.
- تشجيع التحاق اكبر عدد من الطلبة بجامعات الوطن بما هو ممكن ومتاح، وتأمين الإقامات لمن يحتاجها.
- تشجيع التبادل الأكاديمي بين جامعات الوطن والأكاديميين الفلسطينيين في الجامعات العربية والعالمية، وتشجيع هؤلاء للتدريس بالجامعات الفلسطينية بشكل دائم أو بعقود مؤقته، وحتى كمحاضرين زائرين.
ويجب في هذا المجال تسليط ضوء إضافي على حالة أولئك القادرين على زيارة الوطن والأهل بشكل منتظم. أول هؤلاء من يملك حق المواطنة ويحمل الهوية، ثم عشرات الآلاف  المتزايدة من الذين يحملون،هم وعائلاتهم، جنسيات دول غربية تسمح لهم بدخول الوطن.
هؤلاء إضافة إلى قدرتهم  وواجبهم زيارة الوطن والأهل، فإن الأهم هو واجبهم إعطاء أولادهم حق التعرف على وطنهم وبالذات في السنوات الأولى من أعمارهم وقبل أن تتشكل شخصياتهم. ليتحول الارتباط بالوطن والانتماء له من تلقين سماعي أو متابعة إعلامية، إلى وشائج ذاتية شخصية وطنية وعاطفية، وعبر علاقات وتجارب وارتباطات ومشاعر وذكريات، وحتى مخاطر وصعوبات، شخصية وملموسة، ليمتلك الولد بذلك، حق اختيار العودة إلى الوطن والعيش فيه حين تحين ساعة الاختيار وتتوفر ظروف العودة وإمكاناتها. 
للأسف، فإن نسبة عالية من هؤلاء مقصرون في ذلك، فلا هم يزورون الوطن بانتظام ولا هم يعطون الفرصة الواجبة لأولادهم.
لا يقتصر ضرر هذا التصرف على جيل واحد، يبني مسار حياته ومستقبله واهتماماته دون الارتباط الضروري والمطلوب بالوطن، ولكنه يمتد لأجيال تالية، ليس فقط بتكرار التقصير ذاته مع الجيل اللاحق في متوالية يتفاقم خطرها، بل بأضعاف القدرة على نقل حتى الرواية الشفهية عن الوطن وقضيته بالشكل الصحيح من جيل إلى جيل.
وبصراحة لا يوجد عذر قاهر، أو تفسير مقبول يبرر هذا التقصير لدى الغالبية الكبرى منهم، وإنما هي حالة تعبر، في الغالب، عن الانغماس في نمط الحياة المعاش والمرتاح في غالبه، أو تهيّب مبالغ فيه من التجربة واحتمالات ردة فعل الأولاد (مع أنها في الأغلب الأعم تكون إيجابية حميمية ومفرحة)، أو مبالغة في الصعوبات والمخاوف والمخاطر (مع أنها تهون وتستحمل في سبيل الالتقاء بالوطن)، أو تضخيم لما ينقل عما في الوطن من مصاعب وقصورات وانتقادات لتجربة الحكم في بعض أجزائه.
ولا يمكن في تفسير هذا الموقف إسقاط عامل الأنانية والذاتية والتهرب من المسؤولية الوطنية أو الاجتماعية لدى البعض.
ولنتذكر دائماً تجربة العظيم الراحل إدوارد سعيد حين رفض الوسط الذي كان يتواصل ويتعايش معه أن يتعامل معه إلا كعربي مهزوم بعد هزيمة الأنظمة العربية 1967، مع أنه كان قد وصل في ذلك الوقت إلى درجته وشهرته المعروفة. عندها، قام ادوارد سعيد باستدارة صحيحة ومناسبة نحو لغته العربية ونحو الانخراط بمؤسسات للنضال الوطني الفلسطيني، وكان إضافة نوعية هامة.