تعكس قضية اختفاء الشاب الإسرائيلي أبرا منغستو في قطاع غزة السلوك الغريب للدولة والأجهزة الأمنية فيها منذ دخول منغستو إلى القطاع في أيلول العام الماضي وحتى قرار المحكمة بالنشر عن الحادث أمس. الحديث الذي دار أمس حول دخول شاب إسرائيلي آخر من أصل بدوي إلى غزة، والذي لم يتم نشر اسمه بعد، يثير التساؤل.
اجتاز منغستو الحدود إلى القطاع بعد أسبوعين من وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب بين اسرائيل وحماس. يبدو أن خلفية القرارات التي اتخذتها قيادة الأجهزة الأمنية بخصوص منغستو، تتصل بالحرب، ولا سيما خطف جثث هدار غولدن واورون شاؤول من حماس، لكن فعلياً يمكن أن تكون جذور الموضوع دفنت قبل ذلك بخطف الجندي جلعاد شاليت في 2006.
في كل الحروب الأخيرة للجيش الإسرائيلي في القطاع كان هناك تصميم على عدم العودة إلى قضية شاليت، وعدم إبقاء «ممتلكات» في أيدي حماس كي لا تتمكن من فرض مفاوضات على اسرائيل تؤدي مرة اخرى إلى ضغط جماهيري على الحكومة، وإهانة اسرائيل من خلال إطلاق سراح مئات المخربين الفلسطينيين الموجودين في السجون الإسرائيلية. لذلك عندما تم خطف جثة شاؤول في المعركة في حي الشجاعية، وجثة غولدن في المعركة في رفح، بذل الجيش جهدا كبيرا في اتجاهين: بداية – إنهاء عملية الخطف (بالتحديد في رفح حيث استخدم اجراء «هنيبعل» في خلال إطلاق نار مكثف). بعد ذلك الوصول إلى دليل يُمكن الحاخامية العسكرية والأطباء من الإعلان عن الجنود كموتى.
الهدف من هذه الخطوات كان منع حماس من الضغط على اسرائيل، الأمر الذي سيجبرها على الموافقة على تنازلات كبيرة مقابل إعادة الجثث.
إن محاولة منع حماس من امتلاك ورقة مساومة ولا سيما جنود، تزداد عند الحديث عن مواطن، وبالتحديد مثل الذي اجتاز الحدود إلى غزة بإرادته في ظروف غريبة. هنا تم استخدام المثلث غير المقدس لجهاز الأمن من خلال متابعة القضية: إصدار أمر شامل ومتواصل لمنع نشر تفاصيل الحادثة بواسطة الجهاز القضائي (رغم أن الأمر وجد تفاعلا في أوساط اليهود الأثيوبيين في الشبكات الاجتماعية واحيانا في الإنترنت في الخارج). وإعطاء معلومات جزئية فقط لوسائل الإعلام والمعاملة غير اللائقة لعائلة الشاب.
هناك بالطبع توتر بين حق الجمهور في المعرفة ورغبة وسائل الإعلام في التغطية من جهة، وبين اعتبارات الدولة في المفاوضات مع من يحتفظ بجندي أو مواطن، من جهة اخرى.
لا شك أن الهستيريا الجماهيرية أثناء المفاوضات في قضية شاليت والتي رافقتها خطوات من وسائل الإعلام وسياسيين، لا شك قد ساعدت في رفع ثمن الابتزاز من حماس من اجل تنفيذ الصفقة. وفي تلك الأثناء كان منطقيا التوقيع على الصفقة لأن الدولة أثبتت بذلك التزامها تجاه مقاتليها. لكن اعادة شاليت تحققت بثمن إشكالي: ليس إطلاق سراح 1027 مخربا فقط، بل ايضا إطلاق سراح خبراء في الإرهاب مثل يحيى السنوار الذي هو اليوم أحد قادة الذراع العسكري لحماس في القطاع، وسجناء آخرين لهم مكانة قيادية في الضفة التي تستخدم الإرهاب بأوامر من قيادة خاصة في غزة.
منع النشر الكامل مدة عشرة اشهر يعكس سياسة إشكالية. مرة اخرى نرى المحاكم مستعدة لأن توافق بسرعة كبيرة على مطالب الجهاز الأمني والاستجابة لطلبه. يمكننا تفهم الاعتبار الأمني من وراء إخفاء القضية في الأسابيع الأخيرة، من خلال التفكير بأنه يمكن عقد صفقة بهدوء مع حماس قبل أن تفاعل الجمهور مع الأمر، وبالتالي رفع الثمن من حماس. لكن تأجيل النشر مدة عشرة اشهر والطلب من المحكمة مرة تلو اخرى التمديد يشيران إلى التوجه الأوسع لتحقيق الهدوء للمستوى السياسي والأمني وإعفائهما من الأسئلة المقلقة.
قبل أسبوع ونصف، بعد صراع قانوني متواصل وقبل النقاش الذي طلبت فيه صحيفة «هآرتس» تقديم أدلة جديدة حول السلوك الخاطئ للسلطات، تراجعت الأجهزة الأمنية عن معارضتها للنشر دون ذكر الأسباب، أما قرار الإعلان، أمس، بشكل مفاجئ عن وجود مواطن آخر من أصل بدوي في أيدي حماس منذ نيسان الماضي، فهو يسحب البساط من تحت الادعاء فيما يتعلق بمنغستو: لماذا حدث تغيير في هذه القضية دون اجراء نقاش قانوني؟.
في الخلفية لا يمكن تجاهل موضوع لون جلد منغستو لا سيما بعد احتجاج اليهود الأثيوبيين مؤخرا. هل كانت الأجهزة الأمنية ستتجرأ (ستنجح) على استخدام نفس الأمر لو كان الحديث عن عائلة إسرائيلية قديمة مثل عائلة شاليت، أو غولد فاسر أو ريغف؟
صحيح أن هناك فرق: منغستو مواطن قام باجتياز الحدود إلى غزة بمبادرة منه ولدوافع غير معروفة، ومعروف أنه يعاني مشاكل شخصية كثيرة، لهذا لا يجب أن نتوقع من الدولة أن تكون مستعدة لدفع ثمن باهظ مقابل إطلاق سراحه، مثلما حدث مع الجندي الذي تم اختطافه أثناء تأديته الخدمة، شاليت.
ومع ذلك: لو كانت حادثة اخرى لما استطاعت الدولة التعتيم بشكل كامل على الحادثة. الجمهور وسذاجة العائلة مكّنا جهاز الأمن من متابعة القضية ببطء بل وتعطيل اللقاء الأول مع العائلة حسب شهادة شقيق منغستو، وقد مر أسبوعان قبل أن يلتقي طاقم المفاوضات التابع للأجهزة الأمنية مع أبناء العائلة، حيث قدموا لهم تفاصيل أولية عن ابنهم المخطوف.
حدث هنا تأخير لا يمكن استيعابه، وهو يتعلق بشكل مباشر بالاعتبارات الغريبة الموجودة عند القيادة السياسية والأمنية على طول معالجة القضية، والدليل على ذلك هو رد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي أعلن أمس أنه قد تحدث هاتفيا مع أبناء العائلة حيث اتفقوا على الالتقاء قريبا. والغريب أن نتنياهو لم يجد الوقت لذلك خلال عشرة اشهر، وباقي أجهزة الرقابة الخارجية على جهاز الأمن تصرفت بالمثل.
عضو الكنيست افيغدور ليبرمان قال أمس إنه سمع عن القضية الآن فقط رغم أنه كان وزيرا للخارجية وعضوا في الكابنت، وقد استمر في هذا المنصب حتى تشكيل الحكومة الجديدة في أيار.
أما رئيس لجنة الخارجية والأمن الجديد، عضو الكنيست تساحي هنغبي، قال في مقابلة مع الراديو إنه لم يعرف عن القضية. أمس فقط، مع إلغاء أمر منع النشر، سمح مكتب رئيس الحكومة لمصدر أمني بالإجابة باختصار على أسئلة الصحافيين التي تخص القضية. يمكن أن يكون العلاج المتأخر لشكوى العائلة في المرحلة الأولى من القضية يتعلق بتغيير المسؤول عن ملف الأسرى والمفقودين. المسؤول الجديد ليئور لوتان، دخل إلى منصبه بعد أن اجتاز منغستو الحدود بأسابيع قليلة، وخلال فترة وجيزة تواصل لوتان مع عائلة منغستو، وهو يتواصل معها بشكل دائما ويشمل ذلك اللقاءات والزيارات ومرافقة الجيش في المكان الذي اجتاز منه إلى القطاع.
المصدر الأمني رفض الادعاءات حول التمييز بحق منغستو وقال إن جهدا كبيرا بذل في هذه القضية، «تماما كما كنا سنفعل فيما يتعلق بأي مواطن آخر». وحول السؤال الأهم – مصير المخطوف – فإن الأجهزة الأمنية ليست متفائلة. صحيح أن حماس اعترفت في البداية بأن الشاب لديها، لكن حينما اتضح أنه ليس جنديا فقد تم إطلاق سراحه واختفت آثاره. وتستمر اسرائيل في رؤية حماس كمسؤولة عن مصيره، وهي تشك في أن ما قالته المنظمة هو كذب.
يمكن أن يعطي جواب حماس احتمالين غير متفائلين: الأول، التنظيم يشوش من اجل رفع الثمن. الثاني، يمكن أن يكون شيء قد حدث لمنغستو والمنظمة تحاول تمويه الأمر من اجل التملص من المسؤولية. وفيما يتعلق بالإسرائيلي الآخر وهو بدوي من سكان النقب، منع نشر اسمه، اجتاز الحدود في السابق إلى دول مجاورة، فان التقدير في الأجهزة الأمنية أنه موجود لدى حماس، ويبدو أننا أمام قضية معقدة جدا. تتوقع اسرائيل الحصول على جواب من حماس حول المواطنين المفقودين اضافة إلى غولدن وشاؤول – هذه مسألة تحتاج إلى وقت طويل لحلها.
عن «هآرتس»
نوستراداموس ترامب ونبوءة اختفاء إسرائيل..!
12 سبتمبر 2024