بوح واعترافات شخصية: هواجس الكتابة (4 من 4)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

يحتاج النجاح صبراً ومثابرة، وعدداً غير محدد من الإخفاقات.. بيد أنّ التحفة الفنية تفرض نفسها في النهاية، ولو كانت يتيمة.. أعظم الروائيين العالميين اشتهروا بعد إنجازهم عدة روايات.. لكن الأميركية «مارغريت ميتشل» ألفت رواية واحدة فقط «ذهب مع الريح»، وصارت الرواية الأشهر على الإطلاق.. وكذلك «سالنجر»، كتب العديد من القصص القصيرة، لكن روايته الوحيدة «الحارس في حقل الشوفان» صارت من بين أعظم مائة رواية كتبت في القرن العشرين.. لكنه «مثل «ميتشل» احتاج سنوات طويلة من العمل المضني حتى أنجز روايته.
الموهبة ضرورية، لكنها ليست شرطا قهريا.. أهم الفنانين والمبدعين تفجرت مواهبهم بعد سن الستين.. الإرادة والتدريب يعوضان عن الموهبة.. «كولن ولسون»، أنجز معظم أعماله وهو في العشرينيات، «إينشتاين» نال جائزة نوبل وهو في الخامسة والعشرين.. وغيره نالها في سن الثمانين.. النجاح لا يعتمد على العمر.. لكن السنين مهمة لإنضاج التجارب.
البعض يكتب من أجل النجاح والشهرة، وهذا حق مشروع، لأن الطموح أقوى دافع، والبعض يكتب لأن الكتابة مصدر رزقه.. وهذا أيضا مشروع.. الكاتب يبذل جهدا ووقتا ويحتاج أن يعيش.. وآخرون يكتبون لأن لديهم رسالة مؤمنون بها، ويهمهم إيصالها للناس.. وقد يكون الكاتب مزيجا مما سبق.. بالنسبة لي؛ ما زلت غير واثق أني صرت كاتبا.. في اللقاءات الإعلامية يسألني المذيع: بم نعرّف عليك؟ فأخجل، رافضاً أي تصنيف.. وأمام الإلحاح أوافق على تسمية كاتب.. في حفلات توقيع الكتب التي أصدرتها، كنت أتوقع خروج شخص غاضب من بين الجمهور، ليقول لي: إنزل عن المنصة أيها المدعي.
الثقة بالنفس ضرورية، لكنها قد تودي بالكاتب حين تتحول إلى غرور، أو حتى شعور بالرضا، أو إذا استراح في اليقينيات.. «نيوتن» لم يكن ودودا، وكان يكيد لزملائه العلماء، لكنه في العلم كان شديد التواضع، حين بلغ الثمانين، قال: الآن يمكنني القول إني بالكاد وضعت قدمي على شاطئ بحر العلم.
مطلوب من الكاتب تقديم إجابات واقتراح حلول وبدائل.. لكن الأهم أن يطرح الأسئلة المحيرة.. وأن يحفز على التفكير.. أن يمتلك الشجاعة لكسر التابوهات، ليس لمجرد التمرد على المألوف، بل لأن الكاتب الحقيقي لا يجوز أن يكون من القطيع.. فهو لا يبحث عن إرضاء الشارع.. ولا يهمه مساوقة التيار.. عبقرية المبدع تتناسب مع مدى جنونه الداخلي، مع قلقه وخوفه، وشكوكه الدائمة، وأحيانا غرابة أطواره.. لذلك تجد بعض الفنانين بأشكال ومظاهر غريبة، وتخلو من الأناقة.. وأحيانا يصبح هذا نوعا من الاستعراض المزيف.. وتعويض عن نقص داخلي.. المبدع الحقيقي بمقدار ما هو حر وطليق، هو أيضا جميل (في روحه ومظهره).. أنظروا أناقة ووسامة محمود درويش.
يقع الكاتب في خطأ قاتل، إذا ظن أنه أذكى من القراء، أو إذا توهم أنه أكثر منهم علما وثقافة.. سيكتب حينها بمنهج الأستاذ.. وسيتحول إلى واعظ ممل.. ويخطئ أكثر إذا حاول فرض رؤيته على الآخرين، معتقدا أنه يقودهم نحو التنوير والتقدم.. القراء أكثر ذكاء مما نظن.. هم معلمون بالأساس أكثر من كونهم متلقين.. وهم لا يتساهلون مع الكاتب المتثاقف والمدعي والشعبوي.
سؤال الكتابة المزمن: أيهما أهم: الفكرة أم الأسلوب؟ يُقال إن الأفكار موجودة في الشارع، ولدى كل شخص فكرة.. ولكن ليس بوسع أي شخص صياغة فكرته.. وفي المقابل، فإن الكتابة لن تعني شيئا، مهما كان أسلوبها شيقا وجميلا؛ ما لم تحتوِ على فكرة جديدة.. وهذا هو تحدي الكاتب الأصعب.. للأستاذ عارف حجاوي أطروحته الشيقة التي يشرح فيها عن «الكتابة الحسنة»، وكيفية التخلص من الحشو والإنشاء والتأكيدات غير الضرورية، وأهمية التأكد من المعلومات، وتقديمها دون مبالغة، بأسلوب رشيق ينبض بالحركة..
اليوم، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، صار بوسع أي شخص أن يصبح كاتبا، أو شاعرا، أو روائياً.. وبرأيي هذا أمر حسن، ينشّط الحياة الثقافية، ويحفز الجميع على القراءة والكتابة.. وليس من ذلك أي خطر حقيقي على الذائقة العامة للمجتمع.. والمجتمع في النهاية يستطيع أن يميز الغث من السمين.. وبعد السيل، لا يبقى في الوادي إلا حجارته..
في مرحلة ما، تصبح الكتابة متعبة.. تصبح الشغل الوحيد للكاتب، وهاجسه المؤرق.. فيبدأ بالانصراف عن عالمه الحقيقي.. ليغوص في عوالمه الخاصة.. سيحتاج إلى عزلة، واعتكاف في كوخ وسط الغابة.. فيصبح كائنا افتراضيا.. قد يبدع أكثر.. لكنه سيخسر أهله ومحبيه، وحتى نفسه.. وإيجاد توازن بين الحالتين ليس بالأمر الهيّن.. وقد تتحول حياته إلى فراغ مطبق إذا فقد الإلهام، وقد يُصاب بالجنون..
الكتابة تجلي الهموم، بعد أن يفرغها الكاتب على أوراقه، بالكتابة نطهر أرواحنا، ونبث أشواقنا وأوجاعنا للناس، فتعطينا إحساسا بالراحة.. لكنها تصبح مشكلة أخلاقية إذا صار الهدف منها إراحة الضمير، بديلا عن الفعل.. وتغدو أزمة أخلاقية إذا كان الهدف منها فك الاشتباك الداخلي بين شخصيتين مزدوجتين، إذ يتحول الكاتب إلى شخص مثالي على الورق، وشخص آخر في الواقع، قد يكون نقيضا للأول.. بعض الكتّاب أفنوا حياتهم وهم يدافعون عن حقوق المرأة، وفي بيوتهم يمتنعون عن جلي الصحن الذي أكلوا منه!
الكتابة قد تؤدي إلى الكآبة، خاصة الصحافيين الذين يكتبون عن الحروب والنكبات، وعن مآسي الناس.. وأيضا الكتاب المرهفين، يُقال إن أكثر من 150 شاعرا انتحروا في القرن العشرين، نتذكر منهم تيسير سبول، وخليل حاوي، وعشرات غيرهم.
بعض الأصدقاء نصحني بأن أتخصص في مجال محدد.. فأجيبهم بأني إنسان حـر، أكتب ما أشاء، أحيانا أنجز المقال في ساعة، وأحيانا أحتاج أسابيع.. إذا كان الأمر يتطلب بحثا وتقصيا.. أكتب، لأن شيئا ما يحرضني من داخلي على الكتابة.. لأني مؤمن بقدرة الكلمة على التغيير، وبأن الكلمة مسؤولية وأمانة.. وأدرك بأن تجربتي في عالم الكتابة ما زالت غضة، ولا أظن أنها ستكتمل.. ما يريحني أنني لم أكتب يوما شيئا يخالف قناعاتي.. وما يقلقني أنَّ في جوفي الكثير لم أكتبه بعد.