الكاتب: المتوكل طه
صوت الخليفة هارون
مَنْ يأنس في هذا الكرسيِّ الهالةَ والخاتَمَ، والحشمَ الأنذالَ، وَهَتْكَ غلالاتِ الليل، إذاً فليأتِ مكاني، ليرى الكلماتِ النافذةَ على الحُجّابِ، صغارِ الأنفار، إماءِ الغرف، وما ملكت أَيْمانُ الخلفاء .
من يأنس في هذا الكرسيّ القولَ الفصلَ على الدهماء، رعاعِ الأسواق، وكُتّابِ الديوان، أئمةِ جمعِ أحاديثِ رسولِ الله -عليه صلاةُ النور- إذاً فليأتِ مكاني، ليرى أن غواياتِ العطر، وبرقَ الذهب خلاصةُ ما أملكه، أما الجيشُ الجرّارُ، وبيتُ المالِ فللأمراءِ برامكةِ العصرِ الشرفاء.
فأنا كسرى المتحجّرُ، مِشْجَبُ شعراءِ المدح، وفِضَّةُ قاعاتِ العيد، أنا بالونُ الكِذْبَةِ، أو ظِلُّ اللغة، ولا أملك من أمري غيرَ الصورةِ، والتوقيع على أمرِ الوزراء .
من يأنس في هذا العرشِ الوَحْدةَ بين الأخوةِ، فليأتِ مكاني، فأنا الملكُ الساسانيُّ، ولا أملك من ديوانِ "التوقيعِ" أو "الخبرِ" سوى ما يعطيني إياهُ البوذيُّ البلخيُّ، وقدّمتُ له الأمرَ، وقلَّدتُ يديهِ عنانَ الناسِ، وأخرجتُ أمانتَهم من عُنُقي، بل قلتُ له إجلالاً: يحيى، يا أبتي، اجلس فوقَ العرشِ، وهذي غيمتُنا الممتدةُ من أرض التُّركِ إلى الأنبار حلالٌ لشقيقَيَّ الفضلِ وجعفر، وتصرّفْ في الدولة، من أصحابِ السلطانِ إلى مَنْ دخل الدارَ، ألا واخلعْ دُرّاعتَك عليهم، واجعَلْها أرضاً للفُرْس، وهذا إيواني لولاتِك، ولتشريفاتِ العَجَمِ الأقحاحِ، وسوفَ أَعُدُّ فوانيسَ الجدرانِ، ذبابَ البابِ المتسلِّلِ، وأَهُشُّ عن السجادة ما يقعُ من النحل، وأعبثُ مع جاريتي ما يحلو لحصاني، فاذهَبْ يا يحيى للحَمْأةِ ورعاياك، ودَعْني مع موتي وغيابي الحاضرِ.. أمضي للجاريةِ الكَسْلى، علّي أبعثُها للعسل العالي، وألاقي فيها ما يجعلني أملكُ من أمري شيئاً، وبأنّي لستُ وجاريةُ القصرِ سواءً بسواء .
صوت الوزير
أنا يحيى، وأبو الفضل وجعفر، أعطيتُ لبغدادَ الأسوارَ، أضأتُ النهرَ بدارِ المُلك، جعلتُ دماء الأُموِييّن عقيقَ المنصور ورمحَ السفّاح، بسطتُ الأرضَ لهارونَ، وأنقذتُ الهادي من قابيل، أخذتُ الشمسَ من الكوفة، فأبي نسغُ الجمر، وإنِّي تمثالُ النار .
أنا الحوتُ البريُّ، رَحى الثأرِ المسعور، ومَنْ مدّ ذؤابته من فارس للدار البيضاء، أنا صقرُ الصحراءِ وفهدُ الأنواء، أنا روحُ الماءِ، ومَنْ هَبّ من الشرق لِيَهَبَ التاجَ وصدرَ العاجِ وسرجَ الحجّاجِ لأبناءِ العبّاسِ الأخيار.
فلماذا لا أركبُ أسدَ الساحِ، وأحملُ لؤلؤةَ الأنهار؟
صوت العبّاسة
(المرأة الأميرة)
مَنْ تُرى سوفَ يكسِرُ هذا الزَّبَرْجَدَ في سُرّتي؟! سيّدي، أعطني كلّ ما هبّ فيك من النارِ، اصْلِني، واجعل الجمرَ ريّانَ، خُذني من الأخْمَصِ الجاهلي، إلى شَعرِ رأسي الذي يؤمنُ الآن أنَّ الشراسةَ مثلُ الجحيمِ، هما مُبتغى ما يحققُ لي شهوةَ الزنجبيل.
واخلعْ العُشبَ من جِذرهِ باللّسان وبالكفّ، بالإظفرِ اللاهثِ المستبدِّ اللّظى، بالدماءِ التي بزغت مثلَ سيفِ انتقامٍ.. أنا دون هذي الحرائقِِ في إبط ثلجي أموتُ، وأنْ ترحمَ الجسمَ، أي أنْ تصبَّ له من غمامِ البخورِ الذي يُشعلُ الصدرَ والظَهرَ والفارعينِ، وكنـزَ التمورِ الذي يشتهيهِ النخيل .
مَزِّق الثوبَ، إنّي انتضيتُ ثيابي، جلودي التي سكنت ألفَ عامٍ ثلوجَ الحنين، أنا لو تُمزّقني تحتَ أنيابِ فكّيكَ، تمنحني رَعْشَةَ الانبهارِ على لحظةِ الكَشْفِ، أو ذروةَ المستحيل .
هاك نهديّ، بطني، وفخذيّ، إنّي أنا الثعلبُ المُمكنُ الغامضُ الّلا ينامُ، يرى فَخَّهُ في قطوفِ الزبيبِ، ويمضي إليها عسى أنْ يُخاتِلَها، رغمَ حدِّ الحديد، فلا بأسَ في الشَّهْدِ، إنْ سالَ منْ مِخلبِ الصقرِ، في مغربٍ للهديلِ .
أنا سحرُ تفاحةِ الضوءِ، في عتمةِ الناي، سرُّ التي انتظرت برقَها كي يَشُقَّ لها من سريرِ الحريرِ الحصانَ، أنا مَنْ تشققّ فيها اليبابُ، أعدْني إلى نهرِكَ المُستبيحِ، أَغثْني بناريْكَ، إنّي أُحبُّ الدمارَ.. وخُذْني، بلا رجْعةٍ للأفاعي، لتشربَني قطرةً .. قطرةً .. قطرةً، ثُمَّ لا ألتقي بالدليل .
صوت عرّاف القصر
يضرب بالرمل بين يدي الرشيد
يا إلهي!! ما الذي في الرمل يَسري!! سيدي، لا
أستطيع البوح عما يتراءى لي هنا بين يديْ.
أعطني منكَ الأمانْ،
أو فإني عاجز عن ذكر ما تأتي به الأيام، أو
- يعطيه الأمان –
سيدي هارون يا ابن الخيزرانْ،
سوف يأتيك من الأولاد ما يربو على أبناءِ يعقوب الضرير،
يذكر التاريخُ من صُلْبِكَ مأمونَ الأمير،
وتُّغطي ستَ زوجاتٍ وآلافَ الجواري،
ثم لمّا تبلغُ العقْد الذي من بعده سوف تموت،
سيحزُّ السيف ُ أحباباً سفيراً أو وزير
أنت من تقتل أو تسجنُ مَن واسوكَ في الليلِ العسير،
ويكون القتلُ مدعاةً لراحات الضمير ..
سيدي هارون، تلقاك نآدٍ خنفقيق،
ودواهٍ في الطريق،
مثلما تزدانُ بالمُلك اكتمالاً ومصير...
غير أن الحكْمَ ينهارُ على العبّاس لمّا يدخلُ الدارَ
الشعبويُّ الذي انسلّ إلى الخدْرِ عروقاً في السرير ..
أنتَ يا هارونُ تخشى اللهَ ، لكنًّ الذي في القصرِ
دَنٌّ وصريرٌ .. وانتهاكٌ لغرير..
وستمضي آخرَ العُمر إلى طوسَ التي فيها
ستلقى ما سيلقاه جميعُ الناسِ طرّاً أجمعين ،
ربما تبصرُ في الأحلام موتَكُ ،
إنما لن تبصر القتلَ الذي يشتدُّ بَعدَك ..
بين قلبيك شهيقٌ وزفير،
و"اتفاق الكعبة" العصماءِ لن يُفضي الى الصُبحِ المنير،
إنما للقمل في ثوبِ الأمين،
وإلى الحتف الذي يمضي برأس البكْر فوقَ
الطسّ، إني ألمسُ الرأسَ الذي قد قطعوه...
*
بعد عقدين، ولمّا كان هارون بطوسٍ
قال آتوني بعرّافي، فإنْ جاءَ وقد متُّ اقتُلوه
صوت جعفر
لا ترخي شَعرَكِ هذي الليلةَ، يا امرأتي، واغتسلي من إِثْمِدِكِ الساحرِ، أشعرُ أن الغابةَ ركضتْ نحوي، فالهُدْهُدُ حطّ على بابي، عصرَ اليومِ، وصارَ أمامي. وزرافاتُ الطيرِ المفزوعِ، مساءً ، هجرتْ ثَمَري، استيقظَ من غفوتِه النمرُ، وفرّتْ لبوءات النهرِ، وإنّي أسمعُ جسدي المشروخَ على الجسرِ، أنا صلصالُ المصلوبِ المحروق، أشمّ قتاري، لن تمشي خلفي الصَّنّاجةُ بالحزنِ، ولن تجدوا قبري، فَكُلوا لحمي، أو صُبّوا خمري، هذا حُلُمي الناصعُ قُدّامي. منذُ صعدتُ من التاجِ إلى الكرباجِ، إلى أن أخمدتُ الفِتَنَ بمُهْري، أو وقف الشعراءُ ببابي. أكشفُ هذي اللحظةَ سِرّي، ما خنتُ أخي هارونَ -وما حَفظوا قَدْري- ما أشركتُ بربّي -لكنّ صغارَ القصرِ اختلقوا جَمْري- وأطعتُ، وأتبعْتُ إلى الرايةِ بَرَّ البرِّ، فلماذا لا ينفذُ أمري؟ ولماذا لا يعلو قصْري؟ وأنا مَنْ وطّدتُ الجبلَ الراسخَ في لُجِّ البحرِ، فلماذا أنكرتِ العرّافةُ عُمْري، وأعادت رؤياها مع ابني "ماكبث"؟
صوت "أبو زكّار"
(مُغنّي جعفر)
قطعتُ أصابعي وكسرتُ عودي
وأبعدتُ البلابلَ عن حدودي
وقلتُ: إليّ نهراً من دموع
لأسكُبَهُ على لَطْمِ الخدودِ
فلم يعد الغناءُ له لسانٌ
وما عاد التجلّي من عهودي
فبعد رحيل جعفر، ذاتَ شؤمٍ
وصَعْدَتِه إلى نارِ الجحودِ
بكته مدائنُ النهاوندِ عُمْراً
إذا اشتاق المُغنّي للشرودِ
أنا مَنْ كنتُ آخذهُ بآهٍ
فيأخُذُني بجودٍ بعدَ جودِ
أنا من كنتُ أبعثُهُ نجوماً
وأَنْعَفُهُ على ثلجِ البرودِ
أنا مَنْ كان يرجوني بصمتٍ
لأمضيَ خلف أرنبةِ الجُرودِ
ليعرفَ مَنْ سَيَقْنُصُها بسهمٍ
أصاب فؤادَه قبل الصدودِ
أنا مَنْ كان يُسْكِرُهُ بلحنٍ
يذيبُ الصخرَ أو قلبَ الحَرودِ
أنا مَنْ يقتلُ العشاقَ شوقاً
ويَرْميهم إلى عينِ الحسود
وأذبَحُهُم على رِمْشٍ وصدرٍ
وأُرْجِعُهم صغاراً للمهودِ
وما ثَمِلَ الندامى من شرابٍ
وما ابتهجوا بميّاس القدودِ
ولكنَّ الزمانَ زمانُ سَعدٍ
حملناه إلى سَعْدِ السُعودِ
أذَبتُ فتىً أشفَّ من المرايا
فلازمني بنومي أو سجودي
وأسكتني لأن الشمسَ غابت
وأُبْدِلَت الغزالةُ بالقرودِ
صوت الحاشية
نحنُ العقربُ بجناحيه اللاسعتين الواسعتين، هلاكُ الخبزِ، وريحُ الجنّة والأسرار .
صدى كسرى، نحنُ الشهبندرُ والتُجّار.
نحنُ البَرَدُ الضخمُ، دخانُ الصوّان الفوّاح، وقاموسُ الفِضّةِ والدينار. ونحن الدائرةُ المُحْكَمَةُ على دُرّة هارون، الحاشيةُ الفذّةُ، نتقاسمُ مع أبناءِ الشعبِ القمحَ، وصحنَ الزيتِ، وماءَ البئر، لنا خمسةُ أسداسِ القوتِ، ونصفُ الزوجاتِ.. لنا في كل دواوينِ الدولةِ أشباهٌ يأتمرون بأمرِ الحاشيةِ الصُلبةِ، ولهم كلُّ موازنةِ الأمرِ، وعرضُ النهي، ونحمي الواحدَ منهم بإشاعاتِ الطُهْر، وسِحْرِ المُهْرِ، وسيفِ النُقّادِ الأغيار.
ونؤدّبُ مَنْ يتطاول بالتُّهمِ الجاهزةِ المأخوذةِ، من سَفّودِ النار.
نحنُ الحاشيةُ المزروعةُ مثلُ البؤبؤِ، في مَحْجِرِ شُرْطِيِّ الحارةِ، ورجالِ التحقيقِ الشُطّار .
ولنا في أصحاب الحَضْرةِ شيخٌ ودعاءٌ، ولنا نرجسةُ العيّارين، وبَوْحُ الخمرةِ والخمّار .
نحنُ الحاشيةُ، طواويسُ البرِّ، نمورُ الرغبةِ، وقضاءُ الدولةِ .. والأقدار .
صوت مسرور
أنا خادمُ هارون، أعرفُ ما لا يعرفه الوزراءْ، كنتُ الغضبَ الفاترَ حتى يوم السبتِ المشهود، فبعد ثلاث ليالٍ من شهر مُحرّم، ناداني من خلوته سِرّاً، كان كتوماً .. لم أعهد في نغمته ما أرعبني، تلك الليلةَ!!
أين السيفُ؟ أشرتُ إلى سيفي المنسيّ. أينَ النطعُ؟ أجبتُ: هنا، أيضاً، يا مولاي، فقال: إليهم، لا تُبْقِ منهم أحداً .
أكثرُ من ألفٍ ماتوا، وحملنا الفضلَ ويحيى للحبسِ، إلى أن ماتا بالرَّقَّةِ
بعد شهورٍ من تلكَ الوقْعةِ، أصبحتُ عيونَ زبيدةَ في كل المقصورات، أُسّرُّ إليها بالأخبار، فتعطيني خارطةً من ذهبٍ، وحريراً من توتِ الشام، وتوصي مولايَ فيعطيني شرفَ سماعِ قِيانِ اللّيلِ، أعودُ إليها بالشَرْحِ الغائم، تَصْمِتُ، وتشيرُ لأنْ آخذَ خارطةً أُخرى، ويقدّمُني مولاي قليلاً فقليلاً، حتى أصبحتُ أَهُشُّ على رأسِ الوزراءِ بغِمْدِ الصارم، أو يبتشُّ لوجهي كلُّ ولاةِ الأمصارِ.
فأنا مسرور السيّافُ العارفُ والغانم!! أطبقتُ على كل دواوين الدولةِ، وعلى كل الخمّاراتِ، وما يلقيه إمامُ الجامعِ بجواسيسي، حتى أصبحتُ بطانةَ مولاي القائمِ والنائم، أحمدُ ربّي أنّي أحملُ في صدري -الآن- فؤادَ الحاكم، لا بأسَ إذا سبَّ أبي .. فَسأضحكُ في الوجهِ الناقم!! ليس رضىً منه على شَتْمِ أبي، بل أضحكُ في سرّي.. مما يفعَلُهُ مسرورُ الخادم.
صوت رجل برمكي
نجا من المذبحة
(ما زال متخفّياً في القصر)
أنذا الصوتُ الأبديُّ، النجمُ الساقطُ منذ ملايينِ الأزمان..
ما زالَ يَخِرُّ على رأسِ السُلطان،
ويسقطُ منهُ النيزكُ تلو النيزك. وأنا الحبرُ السريُّ بخاتَمِ مولاي، أنا تمتمةُ الجان،
وموقدةُ بخورِ الزار، وطقسُ العادةِ والمنْسَك. وأنا أكبرُ من هذا الجملِ الغادرِ .. أوضَعُ في كفِّ أميري، فأكونُ الخمرةَ والخِنجَرْ .. مَنْ يُفْزِعْ أسمائي يهلَك، مَنْ يَحرُثْ في مائي يَهلَك، فأنا الخاطرُ يسلكُ مجرى الدمعِ، ونبضَ العِرقِ، ويأخذُ ريشَ الإبطِ من الشيطان. أنا ظلُّ الظلّ، المتنفّذُ في الضوءِ، على مرأى الأموات، الأفعى المثلوجةُ في ثوبِ الحاكم، ومريبٌ مثلُ كوابيسِ هزائِمهِ في المعرك. أنا يا ربَّ الأمرِ هُنا خلفَك، في السُّؤرَةِ أظهرُ، أو تحتَ عباءَتكَ اللحميّةِ، أو تحتَ الدُرَّةِ إنْ تَطلُبْ أهلَكْ. وأجيءُ إليكَ مع الريحِ، وأسقطُ مثلَ الضوءِ البارقِ قُدَّامك، ألبسُ ألفَ قناعٍ يسجُدُ حَولَك. أنغرِزُ كوشْمِ الكُحلِ، على كفَّيكَ وفي شفَتيك، وأصْحَبُ أنْفاسَكَ، من رئَتيكَ الى أنْفَيكَ .. وأبدو عبْدَك. لكنَّك يا ربَّ الأمرِ لساني، أنفثُ في صدرِكَ ما يخرجُ من فيك، وتلحظُ ما أفتحُهُ قُدَّامَك مِنْ مَسلَك.
فأنا تعويذةُ ثوبِكَ منذُ المَهْدِ، وشاهدُ قبركَ فوقَ اللّحدِ، سأبقى فيكَ، ولنْ يُرضيكَ سوى ما يُرضي هامةَ بَرْمَكْ،
أعني موتَكَ
..أعني موتَكْ.
صوت هارون بعد المذبحة
(بين زوجتيه مراجل وزبيدة)
أفزعُ من نومي كالملدوغِ، وأمسحُ وجهيَ بالرحمن، وتأتيني زوجي بالماء، وتنظرُ فاحصةً وجهي..
خيراً إنْ شاء الله
خيراً .. خيراً.. عودي للنوم
ما زال فؤادي يسرع في الخفقان،
أقرأ ما أحفظ من قرآن،
أهبطُ نحو الشرفةِ، أفتح بابَ الغرفةِ، أتنسّم بردَ الليل، وأرجع لفراشي .
في اليوم التالي، تسألني أمُّ المأمون:
لماذا أصبحتَ كأوتار السهم المشدود؟
هل تأتيك الروحُ المذبوحةُ في الأُخدود؟
لماذا تنتفضُ كمَنْ يتفلّت من ناب الأفعى أو غرقٍ مشهود؟ لماذا يا هارون، لماذا القتلُ؟ لقد أصبحتَ قليلَ النوم، قليل الأكل، شريدَ الذهنِ، نحيل العود؟ لماذا ..؟
صمتاً يا أمَ المأمون ..
لن أصمتَ قُدّامَ دمِ الأخوال، رماحِ المأمونِ المنكود،
كسرتَ سيوفَ وليّ العهدِ، قتلتَ أخاكَ، ومَنْ ولاّكَ وخنتَ الميثاق المعهود.
** ** **
في الليل التالي، أذهبُ من فوري لزبيدةَ، تبدو كالطفلةِ، تفتحُ أزرارَ المسْكِ وماءَ الزهرِ، وتخْنِسُ في حِجْري.
- افترَّ حصانُكَ هذا الليل، هل سرقتكَ مراجلُ مني ليلة أمس؟!
وكالعادةِ تضحكُ ملءَ القصرِ.
تنادي جاريةً تحملُ بين ذراعيها الطفلَ برفقٍ، تأخذهُ منها وتناغيه، تأتيني قائلةً:
هذا ابْنُكَ يا هارونُ، ابني، من نسْلِ امرأةٍ ما لوّثها الفُرْسُ عبيدُ النار، المنذورون لهدمِ الدارِ، وذبحِ الوالدِ والمولود. وإنّكَ منذُ غسلتَ بلاطَكَ من شَرَّيْكَ، أراكَ عَفيّاً في جَنْبَيْكَ، الدينُ وأهلكَ في كفيّكَ، وسيفُ العدل أمام يديكَ، ومنذ اللحظة، يا هارون، عليكَ العودة للسيفين، هما ركناك ومَنْ نجّاك، بفضل الله، من النمرود .
** ** **
أَذهبُ للنومِ .. فلا يأتي ..
- ثمةَ مَنْ يرفضُ أمرَ الحاكمِ، مثلُ النومِ، ومثلُ الداءِ ومثلُ الموت –
الموت؟!
مَنْ قال بأني أحكُمُه ؟
الموت :
سِرُّ العَرْش، وصخرُ النَقْشِ، وعبدُ السيّافِ المعبود!!
صوت رجل من عامة الناس
أنا حَمّال السوق، الغافي في بيتِ الأفراس، أنا الشاهدُ والأبكم والشيطان الأخرس والبلدُ الخانع،
وأنا لحمُ السوطِ، ودمعُ الموتِ، ومرآةُ الأحزانِ اليابسةِ بصدرِ الناس. أنا الوسواسُ الخنّاس، الكنّاس، القُدّاسُ، وسَقّاءُ الجامع .
أنا مسّاح الأحذية، وخياطُ الغُطْرةِ بالفطرةِ، والنازلُ والطالع.
حلاّقُ الحارةِ، صيّاد الحيرةِ ومشيدُ الأقواس. أنا الفرّانُ الفنانُ وطبّاخُ السُمّ، وبابُ الأحلام الواسع.
وأنا الحالمُ والناقمُ، والغائبُ عن وقْع الأجراس.
أنا الساذجُ والهائجُ، والورّاقُ الحسّاس، أنا الجاهلُ بنوايا الكاتبِ والقُرطاس. أنا سرُّ اللهفةِ في ليلِ المنسيّ الضائع.
وأنا السكّينُ المثلومةُ أو سوءُ الطالع.
أنا سبْحَةُ أفياءِ الخاشعِ أو قصْفُ الفتيانِ الأنجاس. أنا قدّيسُ الشارع، إثمُ النوّاسِ الميّاس، أنا صاحبُ رملِ الطرقات الهاجع، والرائي والسامع، بدرُ الماس ورملُ الكاس، وكحلُ العفّة والأعراس. أنا الرَّجْعُ الراجعُ والصخرُ النابعُ، وسماء الغيمات السابع.
يَذْكُرني مولاي الرائعُ والنجمُ الساطعُ، لأكونَ السدَّ المانعَ والمتراس.
وأظلّ المقموعَ القامع.. والحُرّاس.. أظلّ اللاحقَ والتابع، والزارعَ والصانعَ، وأظلُّ الحدّادَ النحّاس.. إلى أن يقضي اللهُ الأمرَ، ويأتي الجائعُ من جائع،
يعطيه الذُلَّ وصمتَ الفاس، وثلجَ النظرةِ والأنفاس،
والرمشَ المنذورَ اللامع .
صوت الحاجب
إذا نامَ الخليفةُ قام يحيى
وجعفرُ لا يُنيمُ ولا ينامُ
له مليونُ عينٍ عند بابٍ
يُقالُ له الخليفةُ والإمامُ
يعُدّونَ الوفودَ إليه تمضي
إذا قعدوا، قليلاً، أو أقاموا
ويُحصونَ الكلامَ إذا ترامى
ليُعْرَفَ أينَ يذهبُ، والمرامُ
وَتَتْبعُ أعينُ العسسِ الرعايا
إذا كفروا، وإنْ صلّوا وصاموا
ويُدركُ جعفرٌ لونَ "الملايا"
ببيتِ الحاكمينَ وإنْ تحاموا
ويعرِفُ طعمَ طبختهم إذا ما
ينادي القاعدين له الطعامُ
وشكلَ لِباسِ وِلدانٍ وزوجٍ
ورضْعةَ منْ سيبلغُهُ الفطامُ
ويلحقُ فهقةَ الفانوسِ ليلاً
ليلحقَهُ النهارُ المستضامُ
وبذرةَ مسكبٍ في الأرض تعلو
تُبرعِمُ أو يخاتلُها الظلامُ
ويرقبُ غفوةَ الحرّاسِ حتى
يرى حُلمَ النيامِ وهم نيامُ
ورهزةَ عاشقين على سريرٍ
ليشهدهم إذا ذابوا وهاموا
وعصفوراً على فَنَنٍ تعالى
إذا غنى وغالَبَهُ الهيامُ
ويحيى حين يغفو الحوتُ يغفو
وأعيُنُهُ يراقصُها القَتامُ
وجعفرُ مثلُ نسرٍ في فضاءٍ
تضيقُ به المرابعُ والمقامُ
فإن شاء الخليفةُ بعضَ شيءٍ
فإنهما البدايةُ والختامُ
هما نبضُ الخلافةِ والسرايا
وهارونُ العباءةُ والكلامُ
صوت صاحبُ بيت المال
أنا صاحبُ بيتِ المال، حلالٌ مالي، وغزالةُ قافلتي تبرٌ وغلال. أجمعُ كلَّ أتاواتِ السوق،
وزكاة الأنفسِ والأموال.
والجزيةُ آخذها من أهل السُنّةِ، والرهبانِ المأخوذين بصمتِ النبعةِ والآصال.
أنا حصّادُ البذرةِ قبل بزوغ النبتةِ بالأحمال. أنا الخابيةُ، أوزّعُ أموالَ الناس على نفسي، كي يرتاح ضميري، فأنا المسكينُ، ابنُ الفقراءِ، يؤلّف قلبي المالُ، أنا الغارمُ والمُعْدَمُ، والعاملُ، وابنُ سبيلٍ راح ينوءُ بحملِ الأثقال. أنا صندوقُ البائع والدلاّل.
أُعلنُ باسم خليفتنا للناس بأن على الفرد الجزيةَ في العام الواحد رطلَ حريرٍ، أو قبضةَ ذهبٍ.. وإذا شاءَ الفردُ الرؤيةَ والسمعَ، وشُرْبَ الماءِ وأكْلَ الخبز، فلا بُدّ من الضِّعْفِ، وإنْ شاءَ اللحمَ ولبْسَ الصوف، فعشرةُ أضعافِ القيمة، أمّا إنْ شاءَ رَكوباً وزَواجاً، فثلاثونَ من الأرطال، وينفذُ هذا الأمرُ سريعاً؛ في الحال، ولا نقبل واسطةً أو تقسيطاً أو أقوالاً. هذا ما ينطبق على الناسِ جميعاً دون استثناءٍ، اللّهم.. إلا أستثني منه خليفَتَنا والوزراءَ المحسوبين عليه، وبعضَ العَسْكر … والأنذال. ومَنْ يرفضْ دَفْعَ القيمةِ يُسجن، ويُصادر منه البيتُ، بما فيهِ، الزوجةُ والعنْزةُ والأطفال .
صوت شاعر يقف أمام
قصر الرشيد
أجرَرْتَ "حبلَ خليعٍ في الصبا غَزِلِ"
وشمّر الفُرْسُ أيديهم إلى الأسلِ
هذا صريعُ الغواني جُنّ في مُقَلٍ
وما تنبّه أن الموتَ في المُقلِ
فالقلبُ يركبُ أخطاءً مُكرّرةً
والعقل يَرْقُبه باللَّومِ والعذَلِ
وَلن يثوبَ صريعٌ من غمامتِه
حتى تُغرّقَه الأثوابُ بالثَّمِلِ
ولن يتوبَ حصانٌ عن خرافته
حتى تضرّجه الأسرارُ بالخَضِلِ
فإنْ توصّلَ موجٌ عند شاطئِه
يعود منطفِئاً، أو غيرَ متَّصِلِ
يرمي برغوتِه الرعناء منفعِلاً
فحلاً، ويرتدُّ مخذولاً على مَهَلِ
أعطيتَه يا أميرَ المؤمنين سنىً
بأنه قال ما يقسو على الخَجَلِ
أعطيتَه ما أذلّ الشِّعر من ذهبٍ
يحيلُ ضرغامَنا كلباً على عَجَلِ
ويجعلُ النجمَ في عليائه حَجَراً
يُرمى على بطلٍ مِن غادرٍ نذلِ
ويرسُمُ النَّسْرَ في جوزائِه وَرَقاً
يُخَطُّ في سطره التكذيبُ بالخَطَلِ
أعطيتَه يا أميرَ المؤمنين مدىً
يطير فيه على وقْعٍ من الرَّمَلِ
لكي يضيءَ ظلامَ الجائعين لكم
لا أنْ يُدَلّهُنا بالغَنْج والغزلِ
أو أن يجلّي لكم مَنْ مات من كمدٍ
أو مَنْ سَيَعْبُدُ عَتْمَ النار من هُبَلِ
أوقِفْ -أميري- جموعَ القائلين لكم
حرفاً من الثلجِ أو جمراً من الجُمَلِ
يُشَنِّفُ الشِّعرُ إنصاتَ الأميرِ له؟
انظرْ، إذاً، خارجَ الأسوارِ والنُزُلِ
انظر، ترى عَجَماً، في كل ناحيةٍ
يَعلو بهم كوكبٌ أو سائرُ المَثَلِ
انظر، ترى عَجَباً، من وقعِ فاجعةٍ
في كل ثانيةٍ، في ظُلْمَةِ السُّبُلِ
تسعٌ وتسعونَ من شعبِ الرشيدِ لهم
بعضٌ، وواحدهم كُلٌّ بلا كللِ
وانظر، ترى شَأْفَةَ الزنديق في بلدٍ
خلّوه غربتَنا في الحلِّ والمَلَلِ
وأطعموا حرفَهم ضاداً لخُطبَتِهم
كما يُطَعّمُ سُمّ الصِلِّ بالعسلِ
وأنكروا أن للتوحيدِ عصمتَه
وأيقظوا ظُلْمةَ الألوانِ والمِلَلِ
فلم نعد أمَّةً تزدانُ وَحدتُها
وإنما دولٌ تزداد بالدُّولِ
انظرْ –أميري- إلى أطفال مَنْ رحلوا
في غزوِك الشهمِ، أو ظلّوا على الجبل
واضرب، بلا رحمةٍ مَنْ زوّروا دَمنا
وأوقعوا شعبَنا في وَقْعةِ الجَمَلِ
فإن سمعتَ ندائي، سيدي، فكفى
أنيّ شهدتُ بما قالوا ولم يُقَلِ
أو أن هارونَ قد سدَّت مسامعَه
حُجّابُهُ الفُرْسُ بالتدليسِ والدَّجلِ
صوت رجال من العامة
يتسامرون
(وواحد منهم يروي هذه الحكاية)
.. وقيل بأنّ الذي ماتَ شيخٌ، أتى مع جموعٍ، من الشرقِ والغربِ، حتى يقولوا: هلكنا من القحط والموت! لكنَّ "مسرور" أعطى الأوامرَ كي يبعدوا هؤلاء ثلاثين يوماً عن القصر. لم يأبهوا للذي قاله، لم يروا سيفَه، ما رأوا غير عَقْرَبِهِ المُستَعدِّ، أجابوه: مِتْنا من الجوعِ والغيظِ، والريحِ والقيظِ، دعنا نرى سيّدَ الأرضِ، قال: سأحكي له كلَّ ما تطلبونَ، اذهبوا .. واطمئنوا!!
- وما قال للقصرِ ما قاله الناسُ، والناسُ لم يطمئنّوا-
** ** **
بعد يومين نادى المُنادي.. على بَغْلَةٍ كان يمشي وئيداً، يدورُ من الدارِ للدار: يا أيُّها الناسُ إن خليفتنا قد أحالَ إلى مجلسٍ ما جرى، كي يُحَققَّ في الأَمرِ، إن الدماءَ حرامٌ، ومَنْ ماتَ في الحادثِ الأسودِ اعتبروهُ شَهيداً، وها هو ذا القصرُ يعلنُ أنّ النتائجَ قد قاربت بالوصول، اذهبوا واطمئنوا!!
- لكنّهم لم يطمئنّوا -
** ** **
ومن بعد شهرٍ، أفاد العبادُ بأنّ المنادي ينادي، ذهبنا، وكنّا على شُرفةِ السوقِ، قال: اسمعوني، ومَنْ يحضرِ السَمْعَ فليُخْبِرِ الغائبينَ الكُسالى: لقد أثبتَ البحثُ أنّ الذي ماتَ قد ماتَ من دَفْعِهِ تحتَ أقدامِ ألفٍ وألفٍ أتوا يومَ عيدِ الولاء، كي يهتفوا للذي قال "لا بُدّ من تضحياتٍ جِسامٍ توازي معاني جلوسي على العرش"، هيّا اطمئنوا، ولا تأبهوا بالحديثِ المُريبِ، الإشاعاتِ..
.. وما كاد يُنهي مناداتَهُ في العبادِ المساكينِ حتى رأيناه قد طار من فوقِ بغلتِه تحتَ أقدامِ مَنْ حضروا ... صارخاً واحدٌ منهمُ: أيها الناسُ: هيّا اذهبوا واتركوه،
ولم يأبهوا للذي قاله..
ولم يطمئنوا.
صوت شعراء في حانة
يتسامرون
والبة بن الحُباب:
أهلاً أبا نواس! أين تغيبُ؟ سألتُ النادلَ الضحّاكَ والورّاقَ، والفُسّاقَ في الأسواق، لم تظهرْ .. وما لحظوكَ، أين تغيبُ يا مهتوكُ!
نسيتَ نديمكَ الأوّل؟
تعال اجلس هنا عندي، وأخبرني … ؟
أبو نواس:
لم أذهبْ، ولم أعملْ،
ولكني بقيتُ بغرفتي أُقْتَلْ، بطعن ضميري التعبان، مما كان ليلةَ أمسِ من فُحشٍ مع الغلمان.
والبة:
اسكتْ. ما فَعَلتْه أيدينا أشدُّ طهارةً مما يقوم به ولاةُ العصرِ والسلطان.
أبو نواس:
لماذا تُدْخِلُ السلطانَ في تشبيهك اللفظيّ؟ اخفض صوتَك المخمورَ يا سكران، هنا الجدرانُ قد وضعوا لها آذان، فما دُمنا نصبُّ الكأس أو نهتاجُ مع أزواجنَا الخصيان، لن نُسأَلَ، لكنَّا..
والبة:
لا تكمل! ماذا إنْ بعثنا لوط من تابوتِه البحريّ، أو كُنّا نحبُّ الصبية الظرفاءَ والولدان؟! هل أجبرتهم لسريرك العبثيّ، أو لركوبِ جرح اللّذة العمياء؟ لا تكمل، همُ السعداءُ بالكاسات واللمسات والهمسات والأهواء، وأنتَ أميرُنا الذهبيُّ، منذ اليوم، توّجناك فوق شموسهم سهماً، فطوبى للذي تأتيه مذبوحاً، من الريحانِ للريحان، واشربْ أيها الموْخوزُ بالآثام والإيمان .
أبو نواس:
جميلٌ ما فعلتَ بأنْ تركتَ القصرَ والتيجان، دعنا يا أخي ننسى ملمّات اللواتي جئن، من جوعٍ، يبعن اللحمَ بالميزان، أو ذاك الذي، من حاجةٍ، قد باع قُحفتَه لمَنْ يُعطيه بعضَ زوان. دعنا، ثم قُلْ لي: أين بشّار بن بُرد ؟
والبة:
يا أبا نواس، هل ضيّعت عقلك؟! مات الشاعر المغسولُ بالرُمّان، مات، لأنَّ بشاراً رأى ناراً، وصاح: النارَ يا عميان، لكنّ الظلامَ الحاكمَ المحكوم أطفأها فماتَ الشعرُ والديوان، مات… وظلّ رعبُ الموتِ في الإيوان .
أبو نواس:
إذاً، مَنْ ذاك ؟
والبة:
أين ؟
أبو نواس:
هناكَ.
والبة:
أظن أنه حمّاد وابنُ إياس.. يقصفان، ويقدحان زنادَ أعراضِ العبادِ، ويبحثان عن الحليبِ أو الدِنان.. هنا نرى أشباهنا قولاً وفعلاً يا ابن هانئ .. قُمْ إليهم.
- يذهبان، ويجلسان -
حمّاد عجرد:
أهلاً بمَنْ حضرا، فأنكرنا الزمان .
أبو نواس:
العفو يا حمّادُ، يا عقدَ الفضيحةِ، والقريحةِ والبيان.
- يقهقهون، ويشربون -
مطيع بن إياس:
أفلا يكفّ صديقُك الدمويُّ عن قتلِ الخلائقِ دون ذنبٍ أو عنان؟
أبو نواس:
مَنْ صديقي؟
مطيع بن إياس:
أعني أميرَ المؤمنين !
أبو نواس:
القصرُ ليس له صديقٌ أو شقيق.
مطيع:
أراك تنكرُ صُحبةَ الخلان؟!
أبو نواس:
لا، لا، ولكنّ الذين تواطأوا للقتل قُوّادُ الخليفةِ دون علمٍ منه، بل فَقَد الجنان!! وثار في وجه الوزيرِ، وحذّر القُوّادَ من سفك الدماء، بل قال: سوف أُقيمُ خاناً لليتامى بعد أعوامِ المجاعة، إنْ تحسّن وضعنا.
حماد:
عن أي جوعٍ يا أبا نواس تقصد، والبلادُ تفيض بالخيرات؟
أبو نواس:
القائمون على بيوتِ المالِ قد سرقوا البلاد، وأصبحوا وزراءَ أو أمراء، لكن الخليفةَ لا ينام، ويذرعُ الطرقاتِ في قصر المدينةِ باحثاً عن فكرةٍ، ليخلّصَ الناس الجياعَ من الضياع، فتمهّلوا وتصابروا، وادعوا بأنّ الله يلهمُه الشجاعةَ والحقيقةَ والصواب.
مطيع:
اللهُ لن يهديه شبعاناً خليعاً أو جبان.
حمّاد:
واللهُ لا يهدي الذي يُعطي الولاء لشارلمان.
أليس هذا ما تؤكده المصاحفُ والأحاديث الكثيرةُ .. يا ربيبَ الصولجان؟!
أبو نواس:
مهلاً، فإنا قد قدمنا كي نعاقرَها كعين الديك، مع بَوْحِ القِيان، لا أن نُحيلَ حديثنا عن عاهلٍ أمضى من السيف المهند، أو أشدّ من العجائزِ في الأمانة والأمان، ولسوف تذكرُه الأيادي والنوادي والزمان. وكفى حديثاً في السياسة والرياسة والتباكي والهوان.
والبة:
يكفي، وقوموا أيها الجبناءُ قد بزغ النهار، وأطلق الرعيانُ أجراسَ المكان .
مطيع:
هل قلتَ: يا جبناء ؟!
والبة:
نعم، لأننا نشكو بهمسٍ همّنا في الحان، مَنْ منّا تزيّا بالجسارةِ كي يقولَ لأعورِ البلد القميء بأنه من دون عينٍ أو لسان؟
- يطأطئون، ويذهبون، بلا سلامٍ أو كلامٍ أو رهان-
صوت نديم الخليفة
(في حواره الأخير مع الرشيد..)
أجدُ الأبوابَ، جميعَ الأبوابِ أمامي مشرعةً مثل يديه المُشرعتين،
يُومئ من خلفِ كآبتهِ كي أجلس، ويظلُّ إلى أن يهمسَ "مسرورٌ" في أذنيه، يهشّ بيمناه ولا ينبس، تبقى عيناه معلقتين على اللاشيء .
** ** **
مَنْ ينقذُ مولايَ من الرملِ وسُمِّ الأخبارِ وَبومِ الآفاق؟ مَنْ يأخذُهُ من هذا الخوفِ وسَهْمِ الضَعْفِ وموتِ الوردةِ؟
** ** **
ألحظُ خلفَ زئير الصمْتِ الرابضِ في كلّ الأنحاءِ خواءَ الألوانِ، وطأطأةَ الغربان. أرى رغبةَ عينيه الحاكمتين لدمعٍ كاوٍ، وأرى ماءَ الحسرة يُشْرقُ من بين الأجفان، وهذا النَفَسُ المتقطّعُ في التمثال يُخبّئ أسرارَ البركان.
** ** **
أخفُّ لأقتربَ من الكرسيّ الَدّ، يرى كفّي تَرْبُتُ أرضَ العَرْش.
- يا مولاي: إني وحدي بين يديكَ، تكلّم، أو اخرجْ للصَيدِ، وروّح عن نَفْسِكَ، اخرجْ من هذا الضجرِ الباهتِ، من هذا المللِ الناعمِ، واترُكْ جلدَ الفأرِ إلى أقواسِ العَوْسجِ والكُثبان، اخرجْ من صمتِك لحدُاءِ الكلأِ النابتِ بين الواحةِ والغُزلان، اخرجْ أو قُلْ ما يبعِدُ هذا الغمَّ اليابسَ عن روحِكَ.
هل أثْقِلُ بكلامي؟ إنّي أعتذرُ، وأقصدُ أنْ...
يقومُ عن العَرْشِ بطيئاً، فأقومُ أنا من فوري أجمعُ شِقّيّ لباسي، وأقول: نعم يا مولاي، هجيرُ الصيف شديدٌ هذا العام، وإنّ فضاءَ البدرِ الكاشفِ في الصحراءِ…
يغمغمُ:
أكرهُ هذا العَرْشَ، وهذا الزيفَ الشاملَ حولي، يا ليتَ أبي ما كان المهديَّ وما كانت أمّي بنتَ التيجان، ويا ليتَ ولدتُ ابنَ الحوذيِّ الراقصِ مع خيلِ الفضّة، أو ابنَ السقّاءِ الغارقِ في ماءِ الأشجانِ، ويا ليتَ أبي الحطّابَ العابقَ بالسوسنِ، أو ذاكَ الصيّادُ العائدُ مع موجِ الأحزان، ويا ليتَ الراعي المفجوعُ بما أخذ الذئبُ، أبي.. كم أحلمُ يا هذا، أن تنقلبَ الدنيا، بنتُ اللخّناءِ، وأعدوَ طفلاً ما طرّ الشَّعْرُ بشارِبِه الأسيان. أشعرُ أنَّ اللمعانَ الفاهقَ حولي مرآةٌ حدباءٌ يخرج منها الجانُ دخاناً يُعشي قلبي، ما عدتُ أُطيقُ الطِّيبَ وَخَزَّ الثوبِ وأكلَ الجنّةِ والإنسان، أريدُ أن أمضيَ دون رجوعٍ للّيل المفتوحِ بصحراءِ التيهِ وحيداً، هل تفهمُ ما معنى أن تحمل وِزْرَ المُلْكِ، وأن تُسأل يوم البعث عن القتْلِ أو العصيان؟!
ماذا ظلّ من العُمْرِ؟ شهورٌ؟ أعوامٌ؟ ثُمّ الى أين سنمضي؟ هذا العرشُ المنصوبُ سيأكلهُ السوسُ، ولَحْمي يأكلُه الدودُ، ويا ليتَ العمرَ يعودُ، لعلّي…
وغداً يسألني ربّي: ماذا يا عبدي…؟
دعني وحدي …
دعني وحدي…